الخميس، 8 نوفمبر 2018

المَلَل من كَواذب الأخلاق



جاء في "صحيح ابن حبان" عن عـائـشـة -رضي الله عنها- تصف خلقاً من أخلاق الرسول -صلى الله عليه وسلم-  قالت :"كــان عـمـلـه ديمة "(1)، وفي حديث آخر قالت : "كان أحب الأعمال إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي يدوم عليه صاحبه"(2).
أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تعويدنا على المثابرة والدأب على العمل الذي نبدأ به ، وأن يكون نفسنا طويلاً فلا ننقطع لأي عارض ، ولاشك أن هذا الخلق وهذه العادة من أكبر أسباب نجاح الأمم والأفراد، لقد افتـقـدنـا هذا الخلق في الأزمنة المتأخرة فما أن نبدأ بعمل أو مشروع ما حتى ننقطع ، وما أن نسير خـطـوات حـتـى نمــل ونـتـعـب ، وكم من مشاريع علمية أو اقتصادية بُدئ بها ثم انقطعت ، سواء كانت مشاريع فردية أم جماعية، وبعد الانقطاع تتغير الوجهة ونبدأ من جديد. والسبب في هذا : هو أن الطبع مـلـول ، ولم نتعلم بعد (فن التعاون) فيما بيننا ونريد قطف الثمرة بسرعة، ولو تصفحنا التاريخ لوجدنا أن كـبــــار علمائنا لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بالمثابرة والمصابرة، وكم عانى عـلـمــــاء الحديث من الترحال ومشقة الأسفار، وغيرهم من العلماء ما تسنموا هذه المنازل إلا بعد أن جثوا على الركب سنين، وكان أحدهم يسهر أكثر الليل يفكر بالمسألة ويقلب فيها وجهات النظر.
وإذا جـــــاز لنا التعلم من الأعداء ، فإن هذا الخُلق موجود عند الغربيين ، يستقر المبشر بالنصرانية في قرية منقطعة في غابات آسيا أو أدغال أفريقيا سنوات وهو يدعو إلى باطله ، وتكون الـنـتــائج غالباً ضئيلة فلا يخرج إلا بالآحاد الذين تنصَّروا، ومع ذلك لا يسأم ولا يمل، وقد يـتـعـجـب المرء إذا علم أن بعض الصحف والمجلات الغربية لا تزال تصدر من مائة سنة أو أكثر، وبالاسم نفسه دون انقطاع ، وبعض مؤسساتهم عمرها مئات السنين لم تتغير، حتى في شكلها، فمقر رئاسة الوزراء في بريطانيا (10 داوننغ ستريت) عمره (250) سنة ولم يفكروا بالانتقال إلى مكان أوسع وأرحب ، وأما مشاريعهم العلمية الطويلة الأمد فيعرفها كل طالب علم كالمعجم المفهرس لألفاظ الحديث ، وكتابة المستشرق (دوزي) لتاريخ المسلمين في الأندلس استغرقت عشرين سنة، ومشروع تاريخ التراث العربي...
إن هذا الاستمرار الطويل يعطي رسوخاً وتجربة، ويخرج أجيالاً تربت من خلال هذه الاستمرارية، والانقطاع لا ينتج عنه إلا الخيبة والندامة، وقد نهانا الله سبحانه وتعالى أن نكون ((كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً))  [ النحل:92 ]، وهذا عمرو بن العاص -رضي الله عنه- عندما كان أميراً على مصر وقد ركب بغلةً قد شمط وجهها، واجتاز بها منازل أمراء الصحابة وكبار القواد في الفسطاط ، فقال له أحدهم:أتركب هذه البغلة وأنت من أقدر الناس على امتطاء أكرم ناخرة (فرس) بمصر؟ فقال : لاملل عندي لدابتي ما حملت رحلي، ولا لامرأتي ما أحسنت عشرتي، ولا لصديقي ما حفظ سري ، فإن الملل من كواذب الأخلاق.
الهوامش:
1 - صحيح ابن حبان 27/2 بتحقيق الأرنؤوط ، قال ابن الأثير: الديمة: المطر الدائم في سكون.
2 -المصدر السابق 28/2.

السبت، 27 أكتوبر 2018

وضوح الأهداف



اذا أردت لدعوتك أن تكون قوية مؤثرة تجمع عليها الناس، يؤيدونها ويناصرونها، فعليك أن تـكـون واضـحـاً في عـرضـهـا، واضـحاً في عرض أهدافها، اذكر الحقيقة التي تؤمن بها ناصعةً وبصورة حاسمة، أما الغمغمة واتباع الطرق الملتوية ، فهذا سيبعد الطريق ولا يؤدي إلى الـغـرض المـطـلـوب، ومـعـنـى هـذا أن أفـراد الدعوة أنفسهم يجب أن يكونوا متشبعين بـفـهـمـهـا، وفـهـم أهـدافها ووسائلها، وإذا لم يكونوا كذلك فهناك التشويش والخلط بين المراحل الأولى والمراحل الأخيرة، الذي يؤدي إلى التعثر والتخبط.
لقد كانت الأهداف المرحلية واضحة تماماً في السيرة النبوية، كان دعاؤه -صلى الله عليه وسلم- مركزاً وواضحاً في البداية، دعوة الناس جميعاً إلى عبادة الله وحده ، وترك كل ما يعبد من دون الله من أصنام وطواغيت وأهواء وشهوات ، ثم انتقل إلى مرحلة البحث عن مكان آمن للدعوة وأهلها، وأن تكون منطلقاً للتمكين في الأرض.
فيسر الله له أهل يثرب، ودخلوا في دين الله وانتقلت الدعوة إلى الدولة، ثم انتقلت الدولة من مرحلة الجهاد الدفاعي إلى مرحلة الجهاد ، حتى يكون الدين كله لله.
إن هذا الوضوح والإصرار عليه جعل بعض العرب يعجبون بالدعوة وصاحبها، فإن الإصرار على الحق والدفاع عنه لا بد أن يوقظ الناس، وسيقولون لو لم يكن هذا الشيء حقاً لما دافع عنه الناس بهذه التضحية..
وهذا الإصرار يتلوه النجاح ، وهذا أيضاً من أسباب إقبال الناس عليه ، فإن الدعوة الحق لا بـد أن تـنـجـح ولو في بـعـض المراحل أو بعض الأحيان ((واللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ)) ، أما فشلها مرة بعد مرة، فهذا دليل على أن أفرادها لم يميزوا من المقصد والوسيلة، فيتسرعون حيث البطء أو يبطئون حيث يجب الاندفاع.
وفي هـذا الـعـصـر وجـد زعـماء من غير المسلمين وضعوا أهدافاً واضحة، واستخدموا وسائل واضحة، وقد وصلوا إلى كثير مما كانوا يؤملون ، يقول أحد هؤلاء الزعماء:
»لا يـمـكـن لـحـزب سـيـاسي أن يبقى على المسرح ويحقق النجاح إلا إذا كانت لديه أفكار ومعتقدات صلبة وخطة عمل  واضحة« ونحن نقول أيضاً لا بد للعمل الإسلامي من خطة عمل واضحة.

الأربعاء، 24 أكتوبر 2018

المظلوم لا يبني ولا ينتج



قد يعجب بعض الذين لا تـسـرهم الحال التي تعيشها الأمة الإسلامية وغيرها من الشعوب الفقيرة .. يعجبون من الكسل والـشـلــل الـذي يبدو أنه يلف هذه الشعوب ، كيف أنها لا تفكر في معالي الأمور ، وتغرق في المعيشة يوماً يوماً ، ولا يظهر عليها قلق مما يجري حولها من تكتلات اقتصادية، ولا يستثيرها هذا التباري المسعور الذي يحس ويلمس عند الشعوب المتقدمة.
وينسى هؤلاء الذين تؤلـمـهـم هـــذه الـحــال الخاملة ؛ وهذه الحياة التى تبدو مجردة من الأهداف- ماخلا الحاجات الدنيا التي تحـفــظ الـنــوع والنفوس - ينسون حقيقة وبدهية بسيطة واضحة للعيان أن الذي يجرد الإنسان فرداً أو جمـاعــــة - من الأهداف العليا هو الظلم.
فالظلم هو الذي يسحق بشرية البشر ، ويقصر تفكيرهم على الحـــد الأدنــى مـن العيش ، ويجعلهم يرضون بالدون من الحياة ، ويلفتهم لفتاً عن مجرد التفكير في التعمير والتثمير ، وهو الذي يقنعهم بالقول :
لِدُوا للموت وابنوا للخرابِ !
وهذا الداء الوبيل داء الظلم هو الوباء الذي ضرب المسلمين وأقام بينهم لا يريم (1) ، ومع أن شعوباً كثيرة استطاعت أن تضع حداً له ، وتعيش في منجاة من نكايته ، وتحـد مــــن انتشاره ؛ لكننا - مع الأسف - نتقلب في ناره ، ونعاني ما نعاني من شدة ثباته في أرضنا واستقراره .
هذه الجموع العريضة تتذوق شتى أنواع الظلم ، فهم بين مظلوم في ماله ، ومظلوم في دينه ، ومظلوم في حريته ، ومظلوم في حقوقه الأدبية والشخصية ، كل منهم جثم عليه من الظلم - نوع أو أكثر - ما يجعله دائم التفكير في ظالمه ، زاهداً في إنجاز أي شيء سوى الانتصاف لنفسه إن استطاع ، مشلول التفكير والإرادة إلا عن التقلب على جمر الغيظ وحب الانتقام.
ولأمر ما عنون ابن خلدون فصلاً مهماً من مقدمته بالقول : (الظلم مؤذِن بخراب العمران) ولأمر ما اختار كلمة (مؤذن) حتى يجعلك لا تغتر إذا رأيت قصراً منيفاً يتربع فيه ظالم بين الأضواء والرياش ، أو سلطة يتحكم بها متجبر عاتٍ يأمر فيُطاع ، فها هو ذا الظلم ينعق في جنباتها ، مؤذناً بدك بنيانها من القواعد  .
الهوامش :
1 - لا يتحرك ولا ينتقل .

الأربعاء، 19 سبتمبر 2018

الأنظمة المستبدة وكيفية الخلاص منها (1) دور العلم (نشر الوعي) في مواجهة الأنظمة المستبدة


العالم يعيش فترة من أشد فترات الجهل والضياع في جوانب عدة منها الاجتماعي والسياسي والعقدي وتعرض العلم الفكري إلي تشوهات كثيرة حتي أصبح الحق باطلاً والباطل حقاً.
حتي جهل الكثير من أسري الاستبداد المعاني الصحيحة للحرية والعدل والمساواة والحقوق والواجبات وأصبحت زفرات القهر والاستبداد فاضحة .
قال الشيخ عبد الرحمن الكواكبي رحمه الله : لا يخفي علي المستبد مهما كان غبياً أن لا استعباد ولا اعتساف إلا ما دامت الراعية حمقاء في ظلامة جهل وتيه عمياء.
فلو كان المستبد طيراً لكان خفاشاً يصطاد هوام العوام في ظلام الجهل.
فالعلم قبسة من نور الله تعالي وقد خلق الله النور كشافاً مبصراً ولاداً للحرارة والقوة وجعل العلم مثله وضاحاً للخير فضاحاً للشر يولد في النفوس حرارة وفي الرؤوس شهامة العلم نور والظلم ظلام ومن طبيعة النور تبديد الظلام.
ولكن ليست كل العلوم تخشاها الأنظمة المستبدة فمثلاً علوم اللغة وتقويم اللسان والعلوم الدينية المتعلقة بالمعاد والعبادات المختصة بما بين الانسان وربه واعتقاده كل هذه العلوم لا تخشاها الأنظمة المستبدة لأنها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة .
وهنا يقول الشيخ عبد الرحمن الكواكبي رحمه الله : إنما يتلهي بهذه العلوم المتهوسون للعلم حتي إذا ضاع فيها عمرهم  وامتلأتها أدمغتهم وأخذ منهم الغرور ما أخذ فصاروا لا يرون علماً غير علمهم .
وحينئذ يأمن المستبد منهم كما يأمن شر السكران إذا خمر علي أنه إذا نبغ منهم البعض ونالوا حرمة بين العوام لا يعدم المستبد وسيلة لاستخدامهم في تأييد أمره ومجاراة هواه في مقابلة أنه يضحك عليهم بشئ من التعظيم ويسد أفواههم بلقيمات من فتات مائدة الاستبداد.
تماماً كما فعل النظام المستبد في مصر من استخدام بعض الدعاة والمفكرين والسياسيين والإعلاميين سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة وعن قصد منهم أو غير قصد .
فالأنظمة المستبدة لا تخاف ولا تخشي من هؤلاء صغار الهمم يشتريهم المستبد بقليل من المال والإعزاز.
أما الأنظمة المستبدة ترتعد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية والفلسفة العقلية وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع والسياسة المدنية ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النفوس وتوسع العقول وتعرف الانسان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها وكيف النوال وكيف الحفظ .
وهنا يقول الكواكبي رحمه الله في طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد : وأخوف ما يخاف المستبد من أصحاب هذه العلوم النافعة المندفعين منهم لتعليم الناس بالخطابة أو الكتابة وهم المعبر عنهم في القرآن الكريم بالصالحين والمصلحين .
الخلاصة : أن المستبد يخاف من هؤلاء العلماء العاملين الراشدين المرشدين لا من العلماء المنافقين أو الذين حفر في أدمغتهم محفوظات كثيرة كأنها مكتبات مقفلة .
وينتج مما تقدم أن بين الاستبداد والعلم حرباً دائمة : يسعي العلماء في تنوير العقول ونشر الوعي في المجتمعات ويجتهد المستبد في إطفاء نورها والطرفان يتجاذبان العوام .
يقول الكواكبي رحمه الله : ومن هم العوام ؟
هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا وإذا خافوا استسلموا كما أنهم هم الذين متي علموا قالوا ومتي قالوا فعلوا .
العوام هم قوت المستبد وقوته بهم وعليهم يصول ويطول يأسرهم فيتهللون لشوكته.
ويغصب أموالهم فيحمدونه علي ابقائه حياتهم .
ويهينهم فيثنون علي رفعته .
ويغري بعضهم علي بعض فيفتخرون بسياسته .
وإذا سرف في أموالهم يقولون كريماً .
وإذا قتل منهم ولم يمثل يعتبرونه رحيماً.
والحاصل أن العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل والغباؤة فإذا ارتفع الجهل وتنور العقل زال الخوف .
وقال المحققون المدققون : إن أخوف ما يخافه المستبدون الغربيون في العلم أن يعرف الناس حقيقة أن الحرية أفضل من الحياة وأن يعرفوا النفس وعزها والشرف وعظمته والحقوق وكيف تحفظ والظلم وكيف يرفع والإنسانية وما هي وظائفها والرحمة وما هي لذاتها .
أما المستبدون الشرقيون فأفئدتهم هواء ترتجف من صولة العلم وكأن العلم نار وأجسامهم من بارود .
فالمستبدون يخافون من العلم حتي من علم الناس معني كلمة ( لا إله إلا الله ).
والخلاصة : أن الاستبداد والعلم ضدان متغالبان فكل الأنظمة المستبدة تسعي جهدها في إطفاء نور العلم وحصر الرعية في الجهل والعلماء الصادقين والأحرار الذين ينبتون أحياناً في مضايق صخور الاستبداد يسعون جهدهم في تنوير أفكار الناس وتصحيح المفاهيم .
والغالب أن المستبدين يطاردون هؤلاء وينكلون بهم فالسعيد منهم من يتمكن من مهاجرة دياره.
ولهذا سبب أن كل الأنبياء عليهم الصلوات وأتم التسليم وأكثر العلماء الأعلام والأحرار النبلاء تقلبوا في البلاد وماتوا غرباء .

السبت، 11 أغسطس 2018

حال المصلحين


حال المصلحين       
روى البخاري في قصة نزول الوحي على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن
ورقة بن نوفل لمّا أخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خبر ما رأى قال :
ليتني أكون حياً إذ يُخرجك قومك ، فقال رسول الله : أومُخرجي هم ؟ قال : نعم ،
لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي .
عجيب أمر المصلحين .. يواجهون بكل أنواع الظلم والمحاربة والاستهزاء ،
ومع ذلك فهم صابرون محتسبون .. !!
      عجيب أمر المصلحين ، يخرج المصلح منهم وحيداً فريداً يقف بمفرده أمام
الأمة بمجموعها لا يضره من خذله ولا من خالفه ، يتألب عليه الخاصة وينفر منه
العامة ، يصفونه بأقذع الصفات ويتهمونه بأبشع الأخلاق ، ومع ذلك فهو رافع
الرأس ، عالي الهمة ، صادق العزيمة .. ! ينظر المصلح إلى الناس من حوله فيجد
الانحراف والضلال والبعد عن شرع الله فيتحرك قلبه ، ويهتز ضميره ، ويصبح ويمسي مفكراً في هموم الأمة وأحوالها ، يظل قلق النفس حائر اللب ، لا يهدأ باله
بنوم أو راحة ، ولا تسكن نفسه بطعام أو شراب .. وكيف يقوى على ذلك أو
يرضى به وهو يرى أمته تسير إلى الهاوية ، وفصول الهزيمة والاستكانة تتوالى
تباعاً .. !!
      إنّ المصلح صادق مع نفسه ، صادق مع الآخرين ، يجهر بالحق ، ويُسمي
الأشياء بأسمائها ، ويكره التدليس والخداع وتزوير الحقائق ، ولا يرضى بالمداهنة
أو المداورة ، وهذا ما لا يرضي العامة الذين ألهتهم شهواتهم وأهواؤهم عن ذكر الله،   كما لا يرضي المتنفذين الذين يستمدون وجودهم ومكانتهم من غفلة العامة   وسكرتهم .
      ينطلق المصلح مستعيناً بالله تعالى يجوب الآفاق رافعاً صوته بكلمة التوحيد
الخالص لا يعتريه فتور ولا خور ، ولا يقعده عن أمانة البلاغ رغبة ولا رهبة ولا
خوف ، لأن القلب العامر بنور الإيمان يكتسب قوة وثباتاً يستعلي بها على زخرف
الدنيا وبطش الجبابرة .
      إن عظمة المصلح تتجلى في ثباته ورباطة جأشه وقدرته على مواجهة الناس،   بدون كلل أو ملل ، فالحق يمكن أن يصل إليه الكثيرون ، ولكن الصدع به  
والثبات عليه والصبر على الأذى فيه منزلة شامخة لا يصل إليها إلا المصلحون
الأفذاذ .
      إن عظمة المصلح تتجلى في رعايته لهموم الأمة كبيرها وصغيرها ، دينيها
ودنيويها ، فهو يعيش للأمة يذب عن بيضتها ويحمى حماها ، ولا يتعلق قلبه بشكر
الناس أو حمدهم ، أو ترهب نفسه من غضبهم أو ظلمهم ، يقولها صادقاً : يا قوم
لا أسألكم عليه أجراْ إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون  [ هود : 51] إنّ
المصلحين هم صانعو الحياة ، وباعثو الأمل في الأمة هم حرسها وقادتها وحداتها
إلى كل خير ، في زمن عزّ فيه الأحياء ، وندر فيه الصادقون .. !
كتبه / د أيمن عبد العظيم 

الاثنين، 6 أغسطس 2018

رسالة إلي أمتي

إنَّ الحمد لله - تعالى - نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله - تعالى - من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70 - 71].

 

أما بعدُ:

فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله - تعالى - وأحسن الهدْي هدْي محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وشر الأمور محدثاتها، وكل مُحدثة بدْعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

الحمد لله على نعمة النِّعَم، ومنَّة المِنَن، الحمد لله على النِّعمة العُظْمى، والمنة الكبرى، الحمد لله على أعظم نعمة أنعم بها علينا، الحمد لله على أَجَلِّ منة امتن بها علينا، الحمدُ لله على لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

 

الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كُنَّا لنهتدي لولا أنْ هدانا الله، الحمد لله الذي أرْسل إلينا رسولاً منَّا يتْلو علينا آياته ويُزكينا، ويُعلمنا الكتاب والحكمة، وإن كنَّا مِن قبلُ لفي ضلال مبين، الحمد لله على كل رسولٍ أرْسله، الحمد لله على كل حقٍّ أحقه، الحمد لله على كل باطلٍ أزهقه، الحمد لله على كل مظلوم نصره، الحمد لله على كل ظالمٍ قهره، الحمد لله على كل جبارٍ قصمه، والله أكبر كبيرًا.

 

الحمدُ لله الذي جمعنا في هذه الساعة الطيبة المبارَكة، في هذا اليوم الأزهر، في بيت مِن بيوت الله - عزَّ وجلَّ - نتدارَس آيةً من كتاب الله - عزَّ وجلَّ - أو حديثًا من سنَّة نبينا محمد رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم - ومَن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.

 

وبعدُ:



 

أيها الإخوة الأحباب:

إنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - نزل عليه في يوم عرفة قوله - تعالى -: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].

 

أكمل الله - عزَّ وجلَّ - لنا الدين، وأتَمَّ علينا نعمته - سبحانه وتعالى - ورَضِيَ لنا الإسلام دينًا، فكيف ننظر إلى الشرق والغرب؛ ليحلُّوا لنا مشاكلنا؟!

 

أيها الأحباب:

سمع رجل يهوديٌّ بهذه الآية: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، فقال لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: يا أمير المؤمنين، لو نزلت علينا هذه الآية - معشرَ اليهود - لاتخذنا اليوم الذي نزلتْ فيه هذه الآية عيدًا.

 

أيها الأحباب:

نحن محْسُودون على شرْعنا وعلى نبينا، فكيف نصل إلى ما وصلنا إليه؟ احْتُلَّتْ ديارنا، وقُتل أولادنا، وسُبيت نساؤنا، فكيف وصلنا إلى ماوصلْنا إليه؟!

 

أيها الإخوة الأحباب:

كل هذا لا يخفى على أحد، لا يخفى على أحدٍ ما يحدث للمسلمين في كل مكان، إذا نظرت شرقًا وغربًا، لا تجد إلا دماءَ المسلمين، ولا تجد إلا أشلاء المسلمين.

 



حتميَّة وُقُوع البلاء قبل التمكين:

اعلمي - يا أُمتي - أنَّ ما نَحن فيه الآن ما هو إلا بلاء، وهذه سنَّة حتمية قبل التمكين، إن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لما نزل عليه الوحي في الغار، وذهب إلى خديجة - رضي الله عنها - وذهبا إلى ورقة بن نوفل، وحكى النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - له ما حدث معه في الغار، فقال له ورقة بن نوفل: هذا الناموس الذي أنزل على موسى - صلَّى الله عليه وسلَّم - يا لَيْتَنِي فيها جَذَعًا، يا ليتني أكون حيًّا حين يخرجك قومُك، قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أَوَمُخرجي هم؟!))، قال ورقة: نعم، لم يأتِ رجلٌ قط بما جئت به إلاَّ عُودي، وإن يدركني يومك، أنصرك نصرًا مؤزَّرًا[1].

 

سمعتَ - أيها الحبيب - ماذا قال ورقة بن نوفل للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: يا ليتني فيها جذعًا، يا ليتني أكون حيًّا حين يخرجك قومك، قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أَوَمُخرجي هم؟))، قال ورقة: نعم، لم يأتِ رجلٌ قطُّ بما جئت به إلا عودي؟

 

انظر:

النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يخرج بعدُ إلى ساحة الدعوة والجهاد؛ لكي يعاديه قومه، وإنَّما نزل إليه الوحي؛ ليكلفه بالرسالة، ولكنَّ ورقة بن نوفل يُبَيِّن له سنة الله - تعالى - في الخلْق، يبين له حتمية وقوع البلاء قبل التمكين، وبعد ذلك توالت الأحداث، فقال الله - سبحانه وتعالى - لنبيه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 1 - 3].

 

وقال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ [محمد: 31]، وقال تعالى: ﴿ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 141].

 

وقد ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في حديث عياض بن حمار المجاشعي: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذات يوم في خطبته في حديث طويل - قال: ((وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم - عربهم وعجمهم - إلاَّ بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنَّما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك))[2].

 

انظر:

هذه سنة ماضية في الأوَّلين والآخرين، إنَّما بعثتك؛ لأبتليك وأبتلي بك، هذا هو الغرَض من بعْثته - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يبتليَه المولى - عزَّ وجلَّ - بصروف من المحن؛ ليختبر صبره وثباته، ويجعله حقيقة ظاهرة للآخرين، وقدوة وأسوة لمن سلك دربه وطريقه من الدُّعاة إلى الله - تعالى - إلى يوم الدين، وأن يبتلي به الآخرين؛ ليتميَّز معسكر الإيمان من معسكر الكفر؛ قال تعالى: ﴿ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ﴾ [الأنفال: 42].

لذلك - أيها الأحباب - لَمَّا عَلِم النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذلك من رب العالمين - عزَّ وجلَّ - علَّمه صحابته - رضوان الله عليهم أجمعين - وعَلَّم أُمة الإسلام من بعدهم.

 

لما جاء خباب بن الأرت - رضي الله عنه - إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليشتكي له ما وجده هو وأصحابه من العذاب، وما نالهم من استهزاء، فقال: شكونا إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو متوسد بُرْدَةً له في ظِلِّ الكعبة، فقلنا: ألاَ تستنصر لنا؟ ألاَ تدعو لنا؟ فقال: ((قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلاَّ الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون))[3].

 

انظر - أيها الحبيب - ماذا حدث؟ جاء خباب - رضي الله عنه - ليشتكي للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأراد منه أن يدعوَ لهم، وأن يستنصر لهم اللهَ - عزَّ وجلَّ - فما دعا لهم، ولا استنصر لهم - صلَّى الله عليه وسلَّم - وإنَّما عَلَّمه ما تعلمه من رب العالمين - عزَّ وجلَّ - وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه)).

بيَّن له أولاً أنَّ البلاء سنةٌ حتمية قبل التمكين، وثانيًا: علمه الأمل في مستقبل الإسلام، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((والله، ليتمن هذا الأمر حتى يسيرَ الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)).

 

الأمَلُ في مستقبل الإسلام - أيها المسلمون الكرام - فاعلمي يا أُمتي أنَّ ما نحن فيه الآن بلاء، ولا يجب عليك إلا الصبر والثبات، والأخذ بأسباب النجاة والنصرة، حتى يرفع الله - تعالى - البلاء، ويُمَكِّن لأهْل الحقِّ والطاعة؛ قال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55].

 

وتعلمي - يا أُمتي - الأمل في مستقبل الإسلام، واعْلمي أن الله - تعالى - كتب للإسلام النصر لا لسواه، وأنَّ النصْر لأهل الحق، وأنَّ النصر للمؤمنين، كما قال تعالى: ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47].

 

وبعد ذلك كله - أيها الأحباب - ما الحل؟

 

أولاً: التوبة إلى الله - تعالى - من الذنوب:

التوبة من الذنوب، بالرجوع إلى ستِّير العُيُوب، وعلاَّم الغيوب، مبدأ طريق السالكين، ورأس مال الفائزين، ومفتاح استقامة المائلين، فالتوبة هي بداية العبد ونهايته، وقد قال تعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31].

 

وهذه الآية في سورة مدنيَّة خاطَب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم، وصبرهم، وهجرتهم، وجهادهم، ثم علق الفلاح بالتوبة، فلا يرجو الفلاح إلا التائبون، جعلنا الله منهم، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11].

فقسم العباد إلى: "تائب" و"ظالم"، وليس ثَمَّ قسم ثالث، وأوقع اسم الظالم على مَن لم يتب، ولا أظلم منه؛ لجهله بربه وبحقه، وبعيب نفسه، وآفات أعماله، وفي الصحيح عنه: أنَّه قال: ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله، فوالله، إنِّي أتوبُ إليه في اليوم أكثرَ من سبعين مرة)).

 

اعلموا - أيُّها الإخوة الأحباب - أن الذنوب والمعاصي هي السبب فيما نحن فيه الآن، فإنَّ خرابَ الناس وهلاك الأمم إنَّما يكون بسبب انتشار المعاصي والسيئات والمنكرات، وإلى ذلك أشار القرآن الكريم في قوله - تعالى -: ﴿ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ﴾ [الكهف: 59]؛ أي: أهلكناهم بسبب كفرهم وعنادهم؛ ولذلك قال الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ [الإسراء: 16]، ومعنى أَمَرْنا مُترفيها؛ أي: إنَّ المُتْرَفين من أهل الفساد هم الذين يتأمرون على الناس، فيشيعون المنكرات والسيئات بين المسلمين، فإذا شاعت المنكرات، وسكت الناسُ عن تغْييرها، ولم يقوموا بواجِبهم في تغيير المنكرات والأمر بالمعروف، عمَّهم الله - سبحانه وتعالى - بعقابٍ مِنْ عنده، ثم يدعون فلا يستجاب لهم، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 25]، قال ابن عباس: "إذا رأى الناس المظالِم ولم يغيروها، عمَّهُم الله بعذاب من عنده"؛ ولذلك جاء في الحديث عن أم المؤمنين زينب بنت جحش - رضي الله عنها - أنها قالتْ: دخل عليَّ رسول الله ذات يوم فزعًا، وهو يقول: ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بين إصبعيه الإبهام والتي تليها))، فقلتُ - أي: تقول أم المؤمنين زينب رضي الله عنها -: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعَم، إذا كَثُر الخبَث))؛ أخرجه البخاري ومسلم في صحيحَيْهما.

 

ومعنى ((فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه))؛ أي: إن باب الشر والفتنة في عهده يوم أن دخل فزعًا، وهو يقول: ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب))، فتح باب الفتنة والشر مثل هذه، فمنذ ذلك اليوم وإلى يومنا هذا، خمسة عشر قرنًا من الزمان، كم توسع ردم الفتنة وباب الشر، الله أعلم، ولكن الشرور في زماننا هذا كثيرة، فإنَّ النَّاس قد بعدوا عن الله - عزَّ وجلَّ - وصارت السيادةُ لأهل المنكرات والسيئات، يعيثون في الأرض فسادًا، أين المصلحون؟ أين الذين يقومون بواجب الأمر بالمعروف، والنَّهْي عن المنكر؟ أين الذين يقفون في صف واحد أمام أعداء الإسلام؛ ليردوا كيدهم في نحورهم؟

 

وبسبب شُؤم هذه المعاصي التي سادتْ وانتشرَتْ بين المسلمين خرب العمران والبلاد، وتعَطَّلَت المصالح، وإذا بالغلاء الفاحش يضرب بأطنابه في كلِّ مكان، والمسلمون في كلِّ بقاع الأرض يشكون من هذه الابتلاءات والمصائب المتتابِعة عليهم، ألَم يعلموا أنَّ الجزاء من جنْس العمل؟ إنَّ الله - سبحانه وتعالى - ما ينزل مُصيبة في الأرض، ولا بلاء من السماء ينزل إلى الأرض إلا بسبب معصية، إلا بسبب فاحشة، إلا بسبب شُيُوع المنكرات والسيئات والمعاصي، فالبدارَ البدارَ عباد الله، العودة إلى الله، التوبة إلى الله، الاستغفار لله، إذا أردنا أن تحسنَ أحوالنا، ويرفع الله - سبحانه وتعالى - عنَّا البلاء والمصائب، فلن يرفع إلا بتوبة صادقة، بعَوْدة صادقة إلى الله، والتمَسُّك بالكتاب والسُّنَّة ظاهرًا وباطنًا، فإذا فعل المسلمون ذلك عمَّهم من الله - سبحانه وتعالى - الرحمة؛﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30]، ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41].

 

أخرج الإمام ابن ماجَه في سُننه، والبزار والبيهقي، من حديث عبدالله بن عمر قال: وعَظَنا رسول الله فقال: ((يا معشر المهاجرين، خمس خصال إذا ابتليتم بهن - وأعوذ بالله أن تدركوهن -: لَم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضتْ في أسلافِهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤونة، وجوْر السلْطان عليهم، ولم يُمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلَّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم، فيأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم))؛ إسناده حسن.

 

خمس خصال كلها لو تأملناها موجودة فينا، ومنطبقة علينا تمام الانطباق، تعالوا نتأمل: ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون))، يقول الدكتور محمد علي البار، في كتاب "الأمراض الجنسية": إن الطاعون اسم لمسمى الفيروسات الفتاكة التي تفتك بالبشرية، إذا شاعت فيها الفاحشة، والفاحشةُ مسماها في أمرين: في الزنا وفي فعل قوم لوط - والعياذ بالله - هذه الفاحشة اليوم منتشرة بين المسلمين، فتحتْ لها دور البغايا في كثير من البلدان والدول، التي قنَّنت وأعطت للباغيات والمومسات صكوكًا كترخيص السيارة، تمارس هذه الدعارة التي وصفها الله بالفاحشة في قوله - تعالى -: ﴿ وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً ﴾ [الإسراء: 32]، تُعطَى هذه التراخيص للمومسات؛ ليزْنين تحت حماية القانون، وما من فندق أو كازينو أو كابريه، إلا وتجد طابورًا من الداعرات اللاتي يمارسن هذه الفاحشة على مرأى ومسمع من المسلمين جميعًا، وبحماية القانون، ثم بعد ذلك إذا ظهرت في البشرية الأمراض الفتاكة، كالإيدز، والهربس، والزهري، والسيلان، ومرض الشبك الجنسي، إلى آخر تلك الأمراض، التي تعانيها البشرية الآن.

 

اكتُشف في الآونة الأخيرة مرض جديد، اسمه مرض الشوك الجلدي، فما هو؟

الذين يفعلون الفاحشة، سواء بإتيان الفروج الحرام بالزنا، أم بفعل قوم لوط - يبتليهم الله - سبحانه وتعالى - بعظام تخرج من جلودهم، كالشوك ثم بعد ذلك يموتون، بعد أن يتعذبوا عذابًا شديدًا؛ ﴿ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ﴾ [الإسراء: 32].

سيئ السبيل سيئ الطريق؛ ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ﴾ [طه: 124 - 126].

((ولم ينقصوا المكْيال والميزان، إلا أُخِذوا بالسنين، والقحْط، والجفاف))، أَمَا نُعاني اليوم مِن القحط والجفاف؟

 

استسقينا فلم نُسْقَ، دعونا فلم يستجبْ لنا؛ لأن للدُّعاء شروطًا، ومن شروط الدعاء العودة والاستجابة لله، الله - سبحانه وتعالى - ضَمَن لنا الإجابةَ إذا دعوناه بشروط، فقال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة: 186]، مَن ذا الذي يستجيب الله له إذا دعاه؛ ﴿ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].

 

هل استجبنا لله؟ هل آمنَّا بالله؟ حتى الإيمان سلوا أنفسكم: كم من المتحاكمين بالباطل، ونحن نصفق لهم، ونزمجل لهم، ونطبل لهم، ونزمر لهم! وكم من إنسان يريد أن يقيمَ العدالة في الأرض ونحن نسبه ونتهمه بالخيانة! أبَعْد ذلك نريد أن يغيِّر الله - سبحانه وتعالى - من أحوالنا؟!

تَحَكَّمُوا فَاسْتَطَالُوا فِي تَحَكُّمِهِمْ
عَمَّا قَلِيلٍ كَأَنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَكُنِ
لَوْ أَنْصَفُوا أُنْصِفُوا لَكِنْ بَغَوْا فَبَغَى
عَلَيْهِمُ الدَّهْرُ بِالأَحْزَانِ وَالْمِحَنِ
وَأَصْبَحُوا وَلِسَانُ الحَالِ يُنْشِدُهُمْ
هَذَا بِذَاكَ وَلاَ عَتْبٌ عَلَى الزَّمَنِ

إنما العتب علينا.

 

أيها المسلمون:

((إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة))؛ أي: الفقر من غير تعليق، وجور السلطان عليهم، والحالُ تُغْني عن المقال.

 

((ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا مُنعوا القطْر من السماء))؛ في عهد عمر بن عبدالعزيز الخليفة الخامس، الذي سماه الإمام الشافعي بخامس الخلفاء الراشدين - حَكَمَ سنتين بل أقلَّ من السنتين، أقل من السنتين ببضعة أشهر، حكم ما يقارب السنتين، فرَدَّ المظالِمَ إلى أهلها، وأقام الحدودَ والقصاص في الأرض، وطبَّق شرعَ الله، وكان يأخذ المال، فبارك الله في المال أموال الزكاة، حتى إنه كان يحثوه حثوًا، فقسمه على الفقراء والمساكين، ففي السنة الثانية لم يجدوا في دولة الإسلام فقيرًا.

أَحْيَاؤُنَا لاَ يُرْزَقُونَ بِدِرْهَمٍ ♦♦♦ وَبِأَلْفِ أَلْفٍ تُرْزَقُ الأَمْوَاتُ

 

((ولولا البهائم لم يمطروا))، لكن رحمة الله - سبحانه وتعالى - أن يرحم البهائم والأطفال الرُّضَّع والشيوخ الركع، فبرحمة الله لهؤلاء المستضعفين قد ينزل المطر، وإذا حبس عنهم، فذلك جزاء من الله - سبحانه وتعالى - بسبب العقوبة التي نستحقها، وإنَّ الله حكيم لا يصدر شيئًا إلا بحكمة، وهو العزيز الحكيم.

 

((إذا تبايَعْتُم بالعِينَة، ورضيتم بالزَّرع، وأخذتم أذنابَ البقر، وتركتم الجهاد، سَلَّط الله عليكم ذلاًّ، لا ينزعه من قلوبكم حتى تراجعوا دينكم)).

((وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم))، نعم بأسنا بيننا على مستوى الأفراد والشعوب، ما من بقعة إلا وينعدم فيها الأمان اليوم، فتسمع من القبيلة الفلانية 16 قتيلاً، وكذلك كذا جريحًا؛ لماذا؟ لأتفه الأسباب، ليتهم قاتلوا في سبيل الله، إنَّما يُقاتلون في سبيل الطاغوت؛ ﴿ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 76]

 

ثانيًا: الرجوع إلى كتاب الله - تعالى - تلاوة وتدبرًا وعملاً:

القرآن قائدٌ وسائقٌ؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 51 - 52].

 

وجاهدهم بماذا؟ بالقرآن، كأن الله - تعالى - يشيرُ في هذه الآية إلى أنَّ هذا القرآن بديل من إرسال الرسل، فقد كفل الله به مهمة جميع الرسل بأن يصنع القرآن رجالاً كالرسل.

يقول ربي - وأحقُّ القول قول ربي -: ﴿ وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ﴾ [العنكبوت: 50 - 51]، فهم يطلبون آية، فعرفهم أعظم آية هي القرآن.

 

القرآن كلام الله، كتاب مبارك يربيك على العلم والعمل والدعوة، القرآن طريقك لأَنْ تكون رجلاً، أو تربي ولدك على ذلك؛ لكي يكون رجلاً، نعم القرآن هو الذي يصنع الرجال، وسيظل يصنعهُم إلى أن يرثَ اللهُ الأرض ومَن عليها.

نعم إخوتاه، القرآن مَصْنعُ الرجال، القرآن يُفرِّخ الأبطال في حظيرة العبودية، وأهلُ القرآن هم أهلُ اللهِ وخاصتُه، فهل أنت من أهل الله؟ هل أنت من أهل القرآن؟ هل وهبت حياتك للقرآن؟ وهل وضعته على قمةِ أولوياتِك؟ هل فكَّرت مرةً أن تُذاكره كما تذاكرُ الكتاب الدراسي بجد واجتهاد؟

 

أخي في الله، إذا كُنتَ بعيدًا عن القرآن، فاعلَمْ أنك محرومٌ كلَّ الحرمان، تعالَ إلى الله - عزَّ وجلَّ - واعكُفْ على القرآن لتُصْنَع، وإلا فما أبعدَ الدواءَ عن تلك الأدواءِ! والأحاديث في فضْل تعلُّم القرآن الكريم وتعليمه أكثرُ من أن تحصر، أورد طرفًا منها:

يقولُ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((خيرُكم من تعلَّم القرآن وعلمه))؛ أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم.

ويقول الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتقِ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإنَّ منزلتك عند آخر آية تقرؤها))؛ رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح.

وصاحب القرآن هو العامل به، المتخلق بأخلاقه، الملازم لتلاوته، أعَدَّ الله له هذا الأجر العظيم في الدار الآخرة.

ويقول الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أهل القرآن هم أهل الله وخاصته))؛ رواه الإمام أحمد في المسند، وصححه الشيخ الألباني.

وقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فلأَنْ يَغْدُو أَحَدُكُم إِلَى الْمَسْجِد، فَيَتَعَلَّم آيَتَينِ مِن كِتَابِ اللهِ خَيرٌ لَهُ مِن نَاقَتَينِ، وَثَلاثٌ خَيرٌ مِن ثَلاث، وَأَرْبَع خَيرٌ مِن أَربَع، وَمِن أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإِبِلِ))؛ أخرجه مسلم وأحمد.

وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلتْ عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)).

 

وبعد ذلك - أيها الإخوة الأحباب - نماذج من العاملين بالقرآن:

وهذا مثال في أصحاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن أنس قال: "كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بَيْرُحَاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قال أَنَس: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هذه الآيَةُ: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾، قام أبو طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن الله - تبارك وتعالى - يقول: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾، وإن أحب أموالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برها وذُخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بخٍ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قُلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين))، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه"؛ متفق عليه.

 

وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين.

دروس وفوائد من قتل قابيل هابيل

إنَّ الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى مِن شُرُور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهْده الله فلا مُضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].

 

أما بعدُ:

فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدْي هدْي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل مُحدثة بدْعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

الحمد لله على نعمة النِّعَم، ومنَّة المِنَن، الحمد لله على النِّعمة العظمى، والمنة الكبرى، الحمد لله على أعظم نعمة أنعم بها علينا، الحمد لله على أَجَلِّ منة امتن بها علينا، الحمدُ لله على "لا إله إلا الله، محمد رسول الله".

 

الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كُنَّا لنهتدي لولا أنْ هدانا الله، الحمد لله الذي أرْسل إلينا رسولاً منَّا يتْلو علينا آياته ويُزكينا، ويُعلمنا الكتاب والحكمة، وإن كنَّا مِن قبلُ لفي ضلال مبين، الحمد لله على كل رسولٍ أرْسله، الحمد لله على كل حقٍّ أحقه، الحمد لله على كل باطلٍ أزهقه، الحمد لله على كل مظلوم نصره، الحمد لله كل ظالمٍ قهره، الحمد لله على كل جبارٍ قصمه، والله أكبر كبيرًا.

 

الحمدُ لله الذي جمعنا في هذه الساعة الطيبة المبارَكة، في هذا اليوم الأزهر، في بيت مِن بيوت الله - عز وجل - نتدارَس آية من كتاب الله - عز وجل - أو حديثًا من سنَّة نبينا محمد رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم - ومَن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.

 

وبعدُ:

فعنوان مقالي اليوم معكم باسم: "دروس وفوائد مِن قتْل قابيل هابيل"، أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم منَ المتقين، وأن يجعلَنا منَ المقبولين، آمين.

 

فهذه القصة تحكي عن أول جريمة وقعتْ على ظهْر الأرض، وأنها أول مُواجهة بين الخير والشر في بني آدم، ومدى حاجة البشرية إلى تشْريعات الله لِمَنْع الشر والجريمة، وحفْظ الخير وأهله.

 

قال - تعالى -: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ * مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ﴾ [المائدة: 27 - 32].

 

ذكر ابن كثير - رحمه الله - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وعن مُرَّة، وعن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: أنَّ آدم - عليه السلام - كان يزوج ذكر كل بطْن بأنثى البطن الآخر، وأن هابيل أراد أن يتزوجَ بأخت قابيل، وكان قابيل أكبر مِن هابيل، وأخت قابيل أحسن، فأراد قابيل أن يستأثرَ بها على أخيه، وأمره آدم - عليه السلام - أن يزوجه إياها فأبى، فأمرهما أن يقربا قُربانًا، وذهب آدم ليحجَّ إلى مكة.

 

وكانت القرابين حينئذٍ إذا قُبِلتْ نزلتْ نار من السماء فأكلتْها، وإذا لم تقبلْ لم تنزلْ نار لأكلها، فخرج قابيل وهابيل ليُقرِّبا، وكان قابيل صاحب زرع، فقرب صبرة من الطعام من أردأ زرعه، وأضمر في نفسه: ما أبالي أيقبل مني أم لا، لا يتزوج أختي أبدًا!

 

وكان هابيل راعيًا صاحب ماشية، فقرَّب كبشًا سمينًا مِن خيار ماشيته، وأضمر في نفسه الرضا والتسليم لأمره، فوضعا قربانهما على الجبل؛ فنزلتْ نار من السماء فأكلت الكبش، ولم تأكل من قربان قابيل حبة، فنزلوا على الجبل وتفرقوا، وقد غضب قابيل لما ردَّ الله قربانه، وظهر فيه الحسد والبغي، وكان يضمرهما قبل ذلك في نفسه، فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا تنكحَ أختي، فقال: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾.

 

الدروس والفوائد من القصة:

1 - ﴿ لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾:

كان قربان هابيل هو أحسن ماله وأحبه إليه، وكان قربان قابيل هو أردأ ماله.

ومثال في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أنس قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بَيْرُحَاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قال أَنَس: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هذه الآيَةُ: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾، قام أَبُو طَلْحَة إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول اللَّه، إِنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - يَقُولُ: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاء، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ، أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((بخ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْت، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ))، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ؛ متفق عليه.

 

2- ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾:

لقد قبل الله قربان هابيل لعظيم تقْواه؛ ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾.

 

وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾؛ أي: إنما تتفاضَلُون عند الله تعالى بالتقوى لا بالأحساب، وقد وردت الأحاديثُ بذلك عنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - روى البخاري بسنده، عن سعيد بن أبي سعيد - رضي الله عنه - عن أبي هريرة، قال: سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الناس أكرم؟ قال: ((أكرمكم عند الله أتقاكم))، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: ((فأكرم الناس يوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن نبي الله، ابن خليل الله))، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: ((فعن معادن العرب تسألوني؟))، قالوا: نعم، قال: ((فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا)).

 

وروى مسلم - رحمه الله - بسنده أيضًا، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم -: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))؛ رواه ابن ماجه، عن أحمد بن سنان.

 

3- أدب المؤمن عند الفتنة:

فالمؤمنُ يبتعد كل البعد ويكف نفسه عن المواجَهة الدمويَّة؛ ﴿ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾.

 

تذكر - أيها الأخ الحبيب - عظيم العقوبة على ذلك؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار))، قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: ((إنه كان حريصًا على قتْل صاحبه))؛ متَّفق عليه.

 

فهذه جريمة - أيها الإخوة الأحباب - احذر، فالقاتل والمقتول في النار، وهذه آفة ومصيبة عظيمة ابتلينا بها في زماننا هذا؛ فقد كَثُر القتلُ في هذه الأيام، كل يوم نسمع عن حادثٍ أفظع من الذي سبقه، نسال العافية والسلامة.

 

4- الخوف من الله تعالى:

قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ﴾ [الإسراء: 57]، وقال تعالى: ﴿ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175].

 

ومدح أهل الخوف؛ فقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [المؤمنون: 57 - 61].

 

وفي المسند والترمذي عن عائشة - رضي الله عنها - قالتْ: قلتُ: يا رسول الله، {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَة} [المؤمنون: 60]، أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟ قال: ((لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق، ويخاف ألا يُقبل منه)).

 

قال الحسن - رضي الله عنه -: عملوا - والله - بالطاعات، واجتهدوا فيها، وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحسانًا وخشية، والمنافق جمع إساءةً وأمنًا)).

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

 

الخطبة الثانية

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

 

وبعدُ: أيها الإخوة الكرام:

ومن الدروس المستفادَة من قصة قابيل وهابيل:

5- حاجة البشرية إلى التشريع والأحكام الإلهية:

ختم القصة بآيات تتحدَّث عن ذلك: ﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [المائدة:32].

 

فحاجة البشريَّة الآن إلى التشريع والأحكام الإلهية أشد مِنْ حاجتهم إلى الطعام والشراب، لماذا؟ لأنَّ العقاب الذي وضعه الله تعالى لكل جريمة تحدث في المجتمع، من قتل أو سرقة أو زنا، أو غير ذلك من الجرائم، هذا الحل الصحيح الذي يعالج به المشكلة والجريمة، وهذا حق الله فيه، ويكون الحل الصحيح؛ لأنه هو الذي خلقهم، ويعلم ما في نفوسهم، ويعلم كل شيء، وإليه تُرجع الأمور، ولأنَّ الله تعالى ما أنزل الكتب ولا أرسل الرسل إلا لإصلاح المجتمعات الفاسدة.

المَلَل من كَواذب الأخلاق

جاء في "صحيح ابن حبان" عن عـائـشـة -رضي الله عنها- تصف خلقاً من أخلاق الرسول -صلى الله عليه وسلم-   قالت :"كــان عـمـلـه...