العالم يعيش فترة
من أشد فترات الجهل والضياع في جوانب عدة منها الاجتماعي والسياسي والعقدي وتعرض
العلم الفكري إلي تشوهات كثيرة حتي أصبح الحق باطلاً والباطل حقاً.
حتي جهل الكثير من
أسري الاستبداد المعاني الصحيحة للحرية والعدل والمساواة والحقوق والواجبات وأصبحت
زفرات القهر والاستبداد فاضحة .
قال الشيخ عبد
الرحمن الكواكبي رحمه الله : لا يخفي علي المستبد مهما كان غبياً أن لا استعباد
ولا اعتساف إلا ما دامت الراعية حمقاء في ظلامة جهل وتيه عمياء.
فلو كان المستبد
طيراً لكان خفاشاً يصطاد هوام العوام في ظلام الجهل.
فالعلم قبسة من نور
الله تعالي وقد خلق الله النور كشافاً مبصراً ولاداً للحرارة والقوة وجعل العلم
مثله وضاحاً للخير فضاحاً للشر يولد في النفوس حرارة وفي الرؤوس شهامة العلم نور
والظلم ظلام ومن طبيعة النور تبديد الظلام.
ولكن ليست كل
العلوم تخشاها الأنظمة المستبدة فمثلاً علوم اللغة وتقويم اللسان والعلوم الدينية
المتعلقة بالمعاد والعبادات المختصة بما بين الانسان وربه واعتقاده كل هذه العلوم
لا تخشاها الأنظمة المستبدة لأنها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة .
وهنا يقول الشيخ
عبد الرحمن الكواكبي رحمه الله : إنما يتلهي بهذه العلوم المتهوسون للعلم حتي إذا ضاع
فيها عمرهم وامتلأتها أدمغتهم وأخذ منهم
الغرور ما أخذ فصاروا لا يرون علماً غير علمهم .
وحينئذ يأمن المستبد منهم كما يأمن شر السكران إذا خمر علي أنه إذا نبغ
منهم البعض ونالوا حرمة بين العوام لا يعدم المستبد وسيلة لاستخدامهم في تأييد أمره
ومجاراة هواه في مقابلة أنه يضحك عليهم بشئ من التعظيم ويسد أفواههم بلقيمات من
فتات مائدة الاستبداد.
تماماً كما فعل النظام المستبد في مصر من استخدام بعض الدعاة والمفكرين والسياسيين
والإعلاميين سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة وعن قصد منهم أو غير قصد .
فالأنظمة المستبدة لا تخاف ولا تخشي من هؤلاء صغار الهمم يشتريهم المستبد
بقليل من المال والإعزاز.
أما الأنظمة المستبدة ترتعد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية والفلسفة
العقلية وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع والسياسة المدنية ونحو ذلك من العلوم التي
تكبر النفوس وتوسع العقول وتعرف الانسان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها وكيف
النوال وكيف الحفظ .
وهنا يقول الكواكبي رحمه الله في طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد : وأخوف
ما يخاف المستبد من أصحاب هذه العلوم النافعة المندفعين منهم لتعليم الناس
بالخطابة أو الكتابة وهم المعبر عنهم في القرآن الكريم بالصالحين والمصلحين .
الخلاصة : أن المستبد يخاف من هؤلاء العلماء العاملين الراشدين المرشدين لا
من العلماء المنافقين أو الذين حفر في أدمغتهم محفوظات كثيرة كأنها مكتبات مقفلة .
وينتج مما تقدم أن بين الاستبداد والعلم حرباً دائمة : يسعي العلماء في
تنوير العقول ونشر الوعي في المجتمعات ويجتهد المستبد في إطفاء نورها والطرفان
يتجاذبان العوام .
يقول الكواكبي رحمه الله : ومن هم العوام ؟
هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا وإذا خافوا استسلموا كما أنهم هم الذين متي
علموا قالوا ومتي قالوا فعلوا .
العوام هم قوت المستبد وقوته بهم وعليهم يصول ويطول يأسرهم فيتهللون
لشوكته.
ويغصب أموالهم فيحمدونه علي ابقائه حياتهم .
ويهينهم فيثنون علي رفعته .
ويغري بعضهم علي بعض فيفتخرون بسياسته .
وإذا سرف في أموالهم يقولون كريماً .
وإذا قتل منهم ولم يمثل يعتبرونه رحيماً.
والحاصل أن العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل
والغباؤة فإذا ارتفع الجهل وتنور العقل زال الخوف .
وقال المحققون المدققون : إن أخوف ما يخافه المستبدون الغربيون في العلم أن
يعرف الناس حقيقة أن الحرية أفضل من الحياة وأن يعرفوا النفس وعزها والشرف وعظمته
والحقوق وكيف تحفظ والظلم وكيف يرفع والإنسانية وما هي وظائفها والرحمة وما هي
لذاتها .
أما المستبدون الشرقيون فأفئدتهم هواء ترتجف من صولة العلم وكأن العلم نار
وأجسامهم من بارود .
فالمستبدون يخافون من العلم حتي من علم الناس معني كلمة ( لا إله إلا الله
).
والخلاصة : أن الاستبداد والعلم ضدان متغالبان فكل الأنظمة المستبدة تسعي
جهدها في إطفاء نور العلم وحصر الرعية في الجهل والعلماء الصادقين والأحرار الذين
ينبتون أحياناً في مضايق صخور الاستبداد يسعون جهدهم في تنوير أفكار الناس وتصحيح
المفاهيم .
والغالب أن المستبدين يطاردون هؤلاء وينكلون بهم فالسعيد منهم من يتمكن من
مهاجرة دياره.
ولهذا سبب أن كل الأنبياء عليهم الصلوات وأتم التسليم وأكثر العلماء
الأعلام والأحرار النبلاء تقلبوا في البلاد وماتوا غرباء .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق