السبت، 11 أغسطس 2018

حال المصلحين


حال المصلحين       
روى البخاري في قصة نزول الوحي على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن
ورقة بن نوفل لمّا أخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خبر ما رأى قال :
ليتني أكون حياً إذ يُخرجك قومك ، فقال رسول الله : أومُخرجي هم ؟ قال : نعم ،
لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي .
عجيب أمر المصلحين .. يواجهون بكل أنواع الظلم والمحاربة والاستهزاء ،
ومع ذلك فهم صابرون محتسبون .. !!
      عجيب أمر المصلحين ، يخرج المصلح منهم وحيداً فريداً يقف بمفرده أمام
الأمة بمجموعها لا يضره من خذله ولا من خالفه ، يتألب عليه الخاصة وينفر منه
العامة ، يصفونه بأقذع الصفات ويتهمونه بأبشع الأخلاق ، ومع ذلك فهو رافع
الرأس ، عالي الهمة ، صادق العزيمة .. ! ينظر المصلح إلى الناس من حوله فيجد
الانحراف والضلال والبعد عن شرع الله فيتحرك قلبه ، ويهتز ضميره ، ويصبح ويمسي مفكراً في هموم الأمة وأحوالها ، يظل قلق النفس حائر اللب ، لا يهدأ باله
بنوم أو راحة ، ولا تسكن نفسه بطعام أو شراب .. وكيف يقوى على ذلك أو
يرضى به وهو يرى أمته تسير إلى الهاوية ، وفصول الهزيمة والاستكانة تتوالى
تباعاً .. !!
      إنّ المصلح صادق مع نفسه ، صادق مع الآخرين ، يجهر بالحق ، ويُسمي
الأشياء بأسمائها ، ويكره التدليس والخداع وتزوير الحقائق ، ولا يرضى بالمداهنة
أو المداورة ، وهذا ما لا يرضي العامة الذين ألهتهم شهواتهم وأهواؤهم عن ذكر الله،   كما لا يرضي المتنفذين الذين يستمدون وجودهم ومكانتهم من غفلة العامة   وسكرتهم .
      ينطلق المصلح مستعيناً بالله تعالى يجوب الآفاق رافعاً صوته بكلمة التوحيد
الخالص لا يعتريه فتور ولا خور ، ولا يقعده عن أمانة البلاغ رغبة ولا رهبة ولا
خوف ، لأن القلب العامر بنور الإيمان يكتسب قوة وثباتاً يستعلي بها على زخرف
الدنيا وبطش الجبابرة .
      إن عظمة المصلح تتجلى في ثباته ورباطة جأشه وقدرته على مواجهة الناس،   بدون كلل أو ملل ، فالحق يمكن أن يصل إليه الكثيرون ، ولكن الصدع به  
والثبات عليه والصبر على الأذى فيه منزلة شامخة لا يصل إليها إلا المصلحون
الأفذاذ .
      إن عظمة المصلح تتجلى في رعايته لهموم الأمة كبيرها وصغيرها ، دينيها
ودنيويها ، فهو يعيش للأمة يذب عن بيضتها ويحمى حماها ، ولا يتعلق قلبه بشكر
الناس أو حمدهم ، أو ترهب نفسه من غضبهم أو ظلمهم ، يقولها صادقاً : يا قوم
لا أسألكم عليه أجراْ إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون  [ هود : 51] إنّ
المصلحين هم صانعو الحياة ، وباعثو الأمل في الأمة هم حرسها وقادتها وحداتها
إلى كل خير ، في زمن عزّ فيه الأحياء ، وندر فيه الصادقون .. !
كتبه / د أيمن عبد العظيم 

الاثنين، 6 أغسطس 2018

رسالة إلي أمتي

إنَّ الحمد لله - تعالى - نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله - تعالى - من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70 - 71].

 

أما بعدُ:

فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله - تعالى - وأحسن الهدْي هدْي محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وشر الأمور محدثاتها، وكل مُحدثة بدْعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

الحمد لله على نعمة النِّعَم، ومنَّة المِنَن، الحمد لله على النِّعمة العُظْمى، والمنة الكبرى، الحمد لله على أعظم نعمة أنعم بها علينا، الحمد لله على أَجَلِّ منة امتن بها علينا، الحمدُ لله على لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

 

الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كُنَّا لنهتدي لولا أنْ هدانا الله، الحمد لله الذي أرْسل إلينا رسولاً منَّا يتْلو علينا آياته ويُزكينا، ويُعلمنا الكتاب والحكمة، وإن كنَّا مِن قبلُ لفي ضلال مبين، الحمد لله على كل رسولٍ أرْسله، الحمد لله على كل حقٍّ أحقه، الحمد لله على كل باطلٍ أزهقه، الحمد لله على كل مظلوم نصره، الحمد لله على كل ظالمٍ قهره، الحمد لله على كل جبارٍ قصمه، والله أكبر كبيرًا.

 

الحمدُ لله الذي جمعنا في هذه الساعة الطيبة المبارَكة، في هذا اليوم الأزهر، في بيت مِن بيوت الله - عزَّ وجلَّ - نتدارَس آيةً من كتاب الله - عزَّ وجلَّ - أو حديثًا من سنَّة نبينا محمد رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم - ومَن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.

 

وبعدُ:



 

أيها الإخوة الأحباب:

إنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - نزل عليه في يوم عرفة قوله - تعالى -: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].

 

أكمل الله - عزَّ وجلَّ - لنا الدين، وأتَمَّ علينا نعمته - سبحانه وتعالى - ورَضِيَ لنا الإسلام دينًا، فكيف ننظر إلى الشرق والغرب؛ ليحلُّوا لنا مشاكلنا؟!

 

أيها الأحباب:

سمع رجل يهوديٌّ بهذه الآية: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، فقال لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: يا أمير المؤمنين، لو نزلت علينا هذه الآية - معشرَ اليهود - لاتخذنا اليوم الذي نزلتْ فيه هذه الآية عيدًا.

 

أيها الأحباب:

نحن محْسُودون على شرْعنا وعلى نبينا، فكيف نصل إلى ما وصلنا إليه؟ احْتُلَّتْ ديارنا، وقُتل أولادنا، وسُبيت نساؤنا، فكيف وصلنا إلى ماوصلْنا إليه؟!

 

أيها الإخوة الأحباب:

كل هذا لا يخفى على أحد، لا يخفى على أحدٍ ما يحدث للمسلمين في كل مكان، إذا نظرت شرقًا وغربًا، لا تجد إلا دماءَ المسلمين، ولا تجد إلا أشلاء المسلمين.

 



حتميَّة وُقُوع البلاء قبل التمكين:

اعلمي - يا أُمتي - أنَّ ما نَحن فيه الآن ما هو إلا بلاء، وهذه سنَّة حتمية قبل التمكين، إن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لما نزل عليه الوحي في الغار، وذهب إلى خديجة - رضي الله عنها - وذهبا إلى ورقة بن نوفل، وحكى النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - له ما حدث معه في الغار، فقال له ورقة بن نوفل: هذا الناموس الذي أنزل على موسى - صلَّى الله عليه وسلَّم - يا لَيْتَنِي فيها جَذَعًا، يا ليتني أكون حيًّا حين يخرجك قومُك، قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أَوَمُخرجي هم؟!))، قال ورقة: نعم، لم يأتِ رجلٌ قط بما جئت به إلاَّ عُودي، وإن يدركني يومك، أنصرك نصرًا مؤزَّرًا[1].

 

سمعتَ - أيها الحبيب - ماذا قال ورقة بن نوفل للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: يا ليتني فيها جذعًا، يا ليتني أكون حيًّا حين يخرجك قومك، قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أَوَمُخرجي هم؟))، قال ورقة: نعم، لم يأتِ رجلٌ قطُّ بما جئت به إلا عودي؟

 

انظر:

النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يخرج بعدُ إلى ساحة الدعوة والجهاد؛ لكي يعاديه قومه، وإنَّما نزل إليه الوحي؛ ليكلفه بالرسالة، ولكنَّ ورقة بن نوفل يُبَيِّن له سنة الله - تعالى - في الخلْق، يبين له حتمية وقوع البلاء قبل التمكين، وبعد ذلك توالت الأحداث، فقال الله - سبحانه وتعالى - لنبيه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 1 - 3].

 

وقال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ [محمد: 31]، وقال تعالى: ﴿ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 141].

 

وقد ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في حديث عياض بن حمار المجاشعي: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذات يوم في خطبته في حديث طويل - قال: ((وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم - عربهم وعجمهم - إلاَّ بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنَّما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك))[2].

 

انظر:

هذه سنة ماضية في الأوَّلين والآخرين، إنَّما بعثتك؛ لأبتليك وأبتلي بك، هذا هو الغرَض من بعْثته - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يبتليَه المولى - عزَّ وجلَّ - بصروف من المحن؛ ليختبر صبره وثباته، ويجعله حقيقة ظاهرة للآخرين، وقدوة وأسوة لمن سلك دربه وطريقه من الدُّعاة إلى الله - تعالى - إلى يوم الدين، وأن يبتلي به الآخرين؛ ليتميَّز معسكر الإيمان من معسكر الكفر؛ قال تعالى: ﴿ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ﴾ [الأنفال: 42].

لذلك - أيها الأحباب - لَمَّا عَلِم النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذلك من رب العالمين - عزَّ وجلَّ - علَّمه صحابته - رضوان الله عليهم أجمعين - وعَلَّم أُمة الإسلام من بعدهم.

 

لما جاء خباب بن الأرت - رضي الله عنه - إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليشتكي له ما وجده هو وأصحابه من العذاب، وما نالهم من استهزاء، فقال: شكونا إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو متوسد بُرْدَةً له في ظِلِّ الكعبة، فقلنا: ألاَ تستنصر لنا؟ ألاَ تدعو لنا؟ فقال: ((قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلاَّ الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون))[3].

 

انظر - أيها الحبيب - ماذا حدث؟ جاء خباب - رضي الله عنه - ليشتكي للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأراد منه أن يدعوَ لهم، وأن يستنصر لهم اللهَ - عزَّ وجلَّ - فما دعا لهم، ولا استنصر لهم - صلَّى الله عليه وسلَّم - وإنَّما عَلَّمه ما تعلمه من رب العالمين - عزَّ وجلَّ - وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه)).

بيَّن له أولاً أنَّ البلاء سنةٌ حتمية قبل التمكين، وثانيًا: علمه الأمل في مستقبل الإسلام، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((والله، ليتمن هذا الأمر حتى يسيرَ الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)).

 

الأمَلُ في مستقبل الإسلام - أيها المسلمون الكرام - فاعلمي يا أُمتي أنَّ ما نحن فيه الآن بلاء، ولا يجب عليك إلا الصبر والثبات، والأخذ بأسباب النجاة والنصرة، حتى يرفع الله - تعالى - البلاء، ويُمَكِّن لأهْل الحقِّ والطاعة؛ قال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55].

 

وتعلمي - يا أُمتي - الأمل في مستقبل الإسلام، واعْلمي أن الله - تعالى - كتب للإسلام النصر لا لسواه، وأنَّ النصْر لأهل الحق، وأنَّ النصر للمؤمنين، كما قال تعالى: ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47].

 

وبعد ذلك كله - أيها الأحباب - ما الحل؟

 

أولاً: التوبة إلى الله - تعالى - من الذنوب:

التوبة من الذنوب، بالرجوع إلى ستِّير العُيُوب، وعلاَّم الغيوب، مبدأ طريق السالكين، ورأس مال الفائزين، ومفتاح استقامة المائلين، فالتوبة هي بداية العبد ونهايته، وقد قال تعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31].

 

وهذه الآية في سورة مدنيَّة خاطَب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم، وصبرهم، وهجرتهم، وجهادهم، ثم علق الفلاح بالتوبة، فلا يرجو الفلاح إلا التائبون، جعلنا الله منهم، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11].

فقسم العباد إلى: "تائب" و"ظالم"، وليس ثَمَّ قسم ثالث، وأوقع اسم الظالم على مَن لم يتب، ولا أظلم منه؛ لجهله بربه وبحقه، وبعيب نفسه، وآفات أعماله، وفي الصحيح عنه: أنَّه قال: ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله، فوالله، إنِّي أتوبُ إليه في اليوم أكثرَ من سبعين مرة)).

 

اعلموا - أيُّها الإخوة الأحباب - أن الذنوب والمعاصي هي السبب فيما نحن فيه الآن، فإنَّ خرابَ الناس وهلاك الأمم إنَّما يكون بسبب انتشار المعاصي والسيئات والمنكرات، وإلى ذلك أشار القرآن الكريم في قوله - تعالى -: ﴿ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ﴾ [الكهف: 59]؛ أي: أهلكناهم بسبب كفرهم وعنادهم؛ ولذلك قال الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ [الإسراء: 16]، ومعنى أَمَرْنا مُترفيها؛ أي: إنَّ المُتْرَفين من أهل الفساد هم الذين يتأمرون على الناس، فيشيعون المنكرات والسيئات بين المسلمين، فإذا شاعت المنكرات، وسكت الناسُ عن تغْييرها، ولم يقوموا بواجِبهم في تغيير المنكرات والأمر بالمعروف، عمَّهم الله - سبحانه وتعالى - بعقابٍ مِنْ عنده، ثم يدعون فلا يستجاب لهم، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 25]، قال ابن عباس: "إذا رأى الناس المظالِم ولم يغيروها، عمَّهُم الله بعذاب من عنده"؛ ولذلك جاء في الحديث عن أم المؤمنين زينب بنت جحش - رضي الله عنها - أنها قالتْ: دخل عليَّ رسول الله ذات يوم فزعًا، وهو يقول: ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بين إصبعيه الإبهام والتي تليها))، فقلتُ - أي: تقول أم المؤمنين زينب رضي الله عنها -: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعَم، إذا كَثُر الخبَث))؛ أخرجه البخاري ومسلم في صحيحَيْهما.

 

ومعنى ((فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه))؛ أي: إن باب الشر والفتنة في عهده يوم أن دخل فزعًا، وهو يقول: ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب))، فتح باب الفتنة والشر مثل هذه، فمنذ ذلك اليوم وإلى يومنا هذا، خمسة عشر قرنًا من الزمان، كم توسع ردم الفتنة وباب الشر، الله أعلم، ولكن الشرور في زماننا هذا كثيرة، فإنَّ النَّاس قد بعدوا عن الله - عزَّ وجلَّ - وصارت السيادةُ لأهل المنكرات والسيئات، يعيثون في الأرض فسادًا، أين المصلحون؟ أين الذين يقومون بواجب الأمر بالمعروف، والنَّهْي عن المنكر؟ أين الذين يقفون في صف واحد أمام أعداء الإسلام؛ ليردوا كيدهم في نحورهم؟

 

وبسبب شُؤم هذه المعاصي التي سادتْ وانتشرَتْ بين المسلمين خرب العمران والبلاد، وتعَطَّلَت المصالح، وإذا بالغلاء الفاحش يضرب بأطنابه في كلِّ مكان، والمسلمون في كلِّ بقاع الأرض يشكون من هذه الابتلاءات والمصائب المتتابِعة عليهم، ألَم يعلموا أنَّ الجزاء من جنْس العمل؟ إنَّ الله - سبحانه وتعالى - ما ينزل مُصيبة في الأرض، ولا بلاء من السماء ينزل إلى الأرض إلا بسبب معصية، إلا بسبب فاحشة، إلا بسبب شُيُوع المنكرات والسيئات والمعاصي، فالبدارَ البدارَ عباد الله، العودة إلى الله، التوبة إلى الله، الاستغفار لله، إذا أردنا أن تحسنَ أحوالنا، ويرفع الله - سبحانه وتعالى - عنَّا البلاء والمصائب، فلن يرفع إلا بتوبة صادقة، بعَوْدة صادقة إلى الله، والتمَسُّك بالكتاب والسُّنَّة ظاهرًا وباطنًا، فإذا فعل المسلمون ذلك عمَّهم من الله - سبحانه وتعالى - الرحمة؛﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30]، ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41].

 

أخرج الإمام ابن ماجَه في سُننه، والبزار والبيهقي، من حديث عبدالله بن عمر قال: وعَظَنا رسول الله فقال: ((يا معشر المهاجرين، خمس خصال إذا ابتليتم بهن - وأعوذ بالله أن تدركوهن -: لَم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضتْ في أسلافِهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤونة، وجوْر السلْطان عليهم، ولم يُمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلَّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم، فيأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم))؛ إسناده حسن.

 

خمس خصال كلها لو تأملناها موجودة فينا، ومنطبقة علينا تمام الانطباق، تعالوا نتأمل: ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون))، يقول الدكتور محمد علي البار، في كتاب "الأمراض الجنسية": إن الطاعون اسم لمسمى الفيروسات الفتاكة التي تفتك بالبشرية، إذا شاعت فيها الفاحشة، والفاحشةُ مسماها في أمرين: في الزنا وفي فعل قوم لوط - والعياذ بالله - هذه الفاحشة اليوم منتشرة بين المسلمين، فتحتْ لها دور البغايا في كثير من البلدان والدول، التي قنَّنت وأعطت للباغيات والمومسات صكوكًا كترخيص السيارة، تمارس هذه الدعارة التي وصفها الله بالفاحشة في قوله - تعالى -: ﴿ وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً ﴾ [الإسراء: 32]، تُعطَى هذه التراخيص للمومسات؛ ليزْنين تحت حماية القانون، وما من فندق أو كازينو أو كابريه، إلا وتجد طابورًا من الداعرات اللاتي يمارسن هذه الفاحشة على مرأى ومسمع من المسلمين جميعًا، وبحماية القانون، ثم بعد ذلك إذا ظهرت في البشرية الأمراض الفتاكة، كالإيدز، والهربس، والزهري، والسيلان، ومرض الشبك الجنسي، إلى آخر تلك الأمراض، التي تعانيها البشرية الآن.

 

اكتُشف في الآونة الأخيرة مرض جديد، اسمه مرض الشوك الجلدي، فما هو؟

الذين يفعلون الفاحشة، سواء بإتيان الفروج الحرام بالزنا، أم بفعل قوم لوط - يبتليهم الله - سبحانه وتعالى - بعظام تخرج من جلودهم، كالشوك ثم بعد ذلك يموتون، بعد أن يتعذبوا عذابًا شديدًا؛ ﴿ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ﴾ [الإسراء: 32].

سيئ السبيل سيئ الطريق؛ ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ﴾ [طه: 124 - 126].

((ولم ينقصوا المكْيال والميزان، إلا أُخِذوا بالسنين، والقحْط، والجفاف))، أَمَا نُعاني اليوم مِن القحط والجفاف؟

 

استسقينا فلم نُسْقَ، دعونا فلم يستجبْ لنا؛ لأن للدُّعاء شروطًا، ومن شروط الدعاء العودة والاستجابة لله، الله - سبحانه وتعالى - ضَمَن لنا الإجابةَ إذا دعوناه بشروط، فقال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة: 186]، مَن ذا الذي يستجيب الله له إذا دعاه؛ ﴿ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].

 

هل استجبنا لله؟ هل آمنَّا بالله؟ حتى الإيمان سلوا أنفسكم: كم من المتحاكمين بالباطل، ونحن نصفق لهم، ونزمجل لهم، ونطبل لهم، ونزمر لهم! وكم من إنسان يريد أن يقيمَ العدالة في الأرض ونحن نسبه ونتهمه بالخيانة! أبَعْد ذلك نريد أن يغيِّر الله - سبحانه وتعالى - من أحوالنا؟!

تَحَكَّمُوا فَاسْتَطَالُوا فِي تَحَكُّمِهِمْ
عَمَّا قَلِيلٍ كَأَنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَكُنِ
لَوْ أَنْصَفُوا أُنْصِفُوا لَكِنْ بَغَوْا فَبَغَى
عَلَيْهِمُ الدَّهْرُ بِالأَحْزَانِ وَالْمِحَنِ
وَأَصْبَحُوا وَلِسَانُ الحَالِ يُنْشِدُهُمْ
هَذَا بِذَاكَ وَلاَ عَتْبٌ عَلَى الزَّمَنِ

إنما العتب علينا.

 

أيها المسلمون:

((إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة))؛ أي: الفقر من غير تعليق، وجور السلطان عليهم، والحالُ تُغْني عن المقال.

 

((ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا مُنعوا القطْر من السماء))؛ في عهد عمر بن عبدالعزيز الخليفة الخامس، الذي سماه الإمام الشافعي بخامس الخلفاء الراشدين - حَكَمَ سنتين بل أقلَّ من السنتين، أقل من السنتين ببضعة أشهر، حكم ما يقارب السنتين، فرَدَّ المظالِمَ إلى أهلها، وأقام الحدودَ والقصاص في الأرض، وطبَّق شرعَ الله، وكان يأخذ المال، فبارك الله في المال أموال الزكاة، حتى إنه كان يحثوه حثوًا، فقسمه على الفقراء والمساكين، ففي السنة الثانية لم يجدوا في دولة الإسلام فقيرًا.

أَحْيَاؤُنَا لاَ يُرْزَقُونَ بِدِرْهَمٍ ♦♦♦ وَبِأَلْفِ أَلْفٍ تُرْزَقُ الأَمْوَاتُ

 

((ولولا البهائم لم يمطروا))، لكن رحمة الله - سبحانه وتعالى - أن يرحم البهائم والأطفال الرُّضَّع والشيوخ الركع، فبرحمة الله لهؤلاء المستضعفين قد ينزل المطر، وإذا حبس عنهم، فذلك جزاء من الله - سبحانه وتعالى - بسبب العقوبة التي نستحقها، وإنَّ الله حكيم لا يصدر شيئًا إلا بحكمة، وهو العزيز الحكيم.

 

((إذا تبايَعْتُم بالعِينَة، ورضيتم بالزَّرع، وأخذتم أذنابَ البقر، وتركتم الجهاد، سَلَّط الله عليكم ذلاًّ، لا ينزعه من قلوبكم حتى تراجعوا دينكم)).

((وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم))، نعم بأسنا بيننا على مستوى الأفراد والشعوب، ما من بقعة إلا وينعدم فيها الأمان اليوم، فتسمع من القبيلة الفلانية 16 قتيلاً، وكذلك كذا جريحًا؛ لماذا؟ لأتفه الأسباب، ليتهم قاتلوا في سبيل الله، إنَّما يُقاتلون في سبيل الطاغوت؛ ﴿ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 76]

 

ثانيًا: الرجوع إلى كتاب الله - تعالى - تلاوة وتدبرًا وعملاً:

القرآن قائدٌ وسائقٌ؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 51 - 52].

 

وجاهدهم بماذا؟ بالقرآن، كأن الله - تعالى - يشيرُ في هذه الآية إلى أنَّ هذا القرآن بديل من إرسال الرسل، فقد كفل الله به مهمة جميع الرسل بأن يصنع القرآن رجالاً كالرسل.

يقول ربي - وأحقُّ القول قول ربي -: ﴿ وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ﴾ [العنكبوت: 50 - 51]، فهم يطلبون آية، فعرفهم أعظم آية هي القرآن.

 

القرآن كلام الله، كتاب مبارك يربيك على العلم والعمل والدعوة، القرآن طريقك لأَنْ تكون رجلاً، أو تربي ولدك على ذلك؛ لكي يكون رجلاً، نعم القرآن هو الذي يصنع الرجال، وسيظل يصنعهُم إلى أن يرثَ اللهُ الأرض ومَن عليها.

نعم إخوتاه، القرآن مَصْنعُ الرجال، القرآن يُفرِّخ الأبطال في حظيرة العبودية، وأهلُ القرآن هم أهلُ اللهِ وخاصتُه، فهل أنت من أهل الله؟ هل أنت من أهل القرآن؟ هل وهبت حياتك للقرآن؟ وهل وضعته على قمةِ أولوياتِك؟ هل فكَّرت مرةً أن تُذاكره كما تذاكرُ الكتاب الدراسي بجد واجتهاد؟

 

أخي في الله، إذا كُنتَ بعيدًا عن القرآن، فاعلَمْ أنك محرومٌ كلَّ الحرمان، تعالَ إلى الله - عزَّ وجلَّ - واعكُفْ على القرآن لتُصْنَع، وإلا فما أبعدَ الدواءَ عن تلك الأدواءِ! والأحاديث في فضْل تعلُّم القرآن الكريم وتعليمه أكثرُ من أن تحصر، أورد طرفًا منها:

يقولُ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((خيرُكم من تعلَّم القرآن وعلمه))؛ أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم.

ويقول الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتقِ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإنَّ منزلتك عند آخر آية تقرؤها))؛ رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح.

وصاحب القرآن هو العامل به، المتخلق بأخلاقه، الملازم لتلاوته، أعَدَّ الله له هذا الأجر العظيم في الدار الآخرة.

ويقول الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أهل القرآن هم أهل الله وخاصته))؛ رواه الإمام أحمد في المسند، وصححه الشيخ الألباني.

وقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فلأَنْ يَغْدُو أَحَدُكُم إِلَى الْمَسْجِد، فَيَتَعَلَّم آيَتَينِ مِن كِتَابِ اللهِ خَيرٌ لَهُ مِن نَاقَتَينِ، وَثَلاثٌ خَيرٌ مِن ثَلاث، وَأَرْبَع خَيرٌ مِن أَربَع، وَمِن أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإِبِلِ))؛ أخرجه مسلم وأحمد.

وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلتْ عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)).

 

وبعد ذلك - أيها الإخوة الأحباب - نماذج من العاملين بالقرآن:

وهذا مثال في أصحاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن أنس قال: "كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بَيْرُحَاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قال أَنَس: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هذه الآيَةُ: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾، قام أبو طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن الله - تبارك وتعالى - يقول: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾، وإن أحب أموالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برها وذُخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بخٍ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قُلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين))، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه"؛ متفق عليه.

 

وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين.

دروس وفوائد من قتل قابيل هابيل

إنَّ الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى مِن شُرُور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهْده الله فلا مُضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].

 

أما بعدُ:

فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدْي هدْي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل مُحدثة بدْعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

الحمد لله على نعمة النِّعَم، ومنَّة المِنَن، الحمد لله على النِّعمة العظمى، والمنة الكبرى، الحمد لله على أعظم نعمة أنعم بها علينا، الحمد لله على أَجَلِّ منة امتن بها علينا، الحمدُ لله على "لا إله إلا الله، محمد رسول الله".

 

الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كُنَّا لنهتدي لولا أنْ هدانا الله، الحمد لله الذي أرْسل إلينا رسولاً منَّا يتْلو علينا آياته ويُزكينا، ويُعلمنا الكتاب والحكمة، وإن كنَّا مِن قبلُ لفي ضلال مبين، الحمد لله على كل رسولٍ أرْسله، الحمد لله على كل حقٍّ أحقه، الحمد لله على كل باطلٍ أزهقه، الحمد لله على كل مظلوم نصره، الحمد لله كل ظالمٍ قهره، الحمد لله على كل جبارٍ قصمه، والله أكبر كبيرًا.

 

الحمدُ لله الذي جمعنا في هذه الساعة الطيبة المبارَكة، في هذا اليوم الأزهر، في بيت مِن بيوت الله - عز وجل - نتدارَس آية من كتاب الله - عز وجل - أو حديثًا من سنَّة نبينا محمد رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم - ومَن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.

 

وبعدُ:

فعنوان مقالي اليوم معكم باسم: "دروس وفوائد مِن قتْل قابيل هابيل"، أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم منَ المتقين، وأن يجعلَنا منَ المقبولين، آمين.

 

فهذه القصة تحكي عن أول جريمة وقعتْ على ظهْر الأرض، وأنها أول مُواجهة بين الخير والشر في بني آدم، ومدى حاجة البشرية إلى تشْريعات الله لِمَنْع الشر والجريمة، وحفْظ الخير وأهله.

 

قال - تعالى -: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ * مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ﴾ [المائدة: 27 - 32].

 

ذكر ابن كثير - رحمه الله - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وعن مُرَّة، وعن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: أنَّ آدم - عليه السلام - كان يزوج ذكر كل بطْن بأنثى البطن الآخر، وأن هابيل أراد أن يتزوجَ بأخت قابيل، وكان قابيل أكبر مِن هابيل، وأخت قابيل أحسن، فأراد قابيل أن يستأثرَ بها على أخيه، وأمره آدم - عليه السلام - أن يزوجه إياها فأبى، فأمرهما أن يقربا قُربانًا، وذهب آدم ليحجَّ إلى مكة.

 

وكانت القرابين حينئذٍ إذا قُبِلتْ نزلتْ نار من السماء فأكلتْها، وإذا لم تقبلْ لم تنزلْ نار لأكلها، فخرج قابيل وهابيل ليُقرِّبا، وكان قابيل صاحب زرع، فقرب صبرة من الطعام من أردأ زرعه، وأضمر في نفسه: ما أبالي أيقبل مني أم لا، لا يتزوج أختي أبدًا!

 

وكان هابيل راعيًا صاحب ماشية، فقرَّب كبشًا سمينًا مِن خيار ماشيته، وأضمر في نفسه الرضا والتسليم لأمره، فوضعا قربانهما على الجبل؛ فنزلتْ نار من السماء فأكلت الكبش، ولم تأكل من قربان قابيل حبة، فنزلوا على الجبل وتفرقوا، وقد غضب قابيل لما ردَّ الله قربانه، وظهر فيه الحسد والبغي، وكان يضمرهما قبل ذلك في نفسه، فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا تنكحَ أختي، فقال: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾.

 

الدروس والفوائد من القصة:

1 - ﴿ لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾:

كان قربان هابيل هو أحسن ماله وأحبه إليه، وكان قربان قابيل هو أردأ ماله.

ومثال في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أنس قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بَيْرُحَاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قال أَنَس: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هذه الآيَةُ: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾، قام أَبُو طَلْحَة إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول اللَّه، إِنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - يَقُولُ: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاء، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ، أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((بخ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْت، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ))، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ؛ متفق عليه.

 

2- ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾:

لقد قبل الله قربان هابيل لعظيم تقْواه؛ ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾.

 

وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾؛ أي: إنما تتفاضَلُون عند الله تعالى بالتقوى لا بالأحساب، وقد وردت الأحاديثُ بذلك عنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - روى البخاري بسنده، عن سعيد بن أبي سعيد - رضي الله عنه - عن أبي هريرة، قال: سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الناس أكرم؟ قال: ((أكرمكم عند الله أتقاكم))، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: ((فأكرم الناس يوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن نبي الله، ابن خليل الله))، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: ((فعن معادن العرب تسألوني؟))، قالوا: نعم، قال: ((فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا)).

 

وروى مسلم - رحمه الله - بسنده أيضًا، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم -: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))؛ رواه ابن ماجه، عن أحمد بن سنان.

 

3- أدب المؤمن عند الفتنة:

فالمؤمنُ يبتعد كل البعد ويكف نفسه عن المواجَهة الدمويَّة؛ ﴿ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾.

 

تذكر - أيها الأخ الحبيب - عظيم العقوبة على ذلك؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار))، قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: ((إنه كان حريصًا على قتْل صاحبه))؛ متَّفق عليه.

 

فهذه جريمة - أيها الإخوة الأحباب - احذر، فالقاتل والمقتول في النار، وهذه آفة ومصيبة عظيمة ابتلينا بها في زماننا هذا؛ فقد كَثُر القتلُ في هذه الأيام، كل يوم نسمع عن حادثٍ أفظع من الذي سبقه، نسال العافية والسلامة.

 

4- الخوف من الله تعالى:

قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ﴾ [الإسراء: 57]، وقال تعالى: ﴿ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175].

 

ومدح أهل الخوف؛ فقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [المؤمنون: 57 - 61].

 

وفي المسند والترمذي عن عائشة - رضي الله عنها - قالتْ: قلتُ: يا رسول الله، {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَة} [المؤمنون: 60]، أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟ قال: ((لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق، ويخاف ألا يُقبل منه)).

 

قال الحسن - رضي الله عنه -: عملوا - والله - بالطاعات، واجتهدوا فيها، وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحسانًا وخشية، والمنافق جمع إساءةً وأمنًا)).

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

 

الخطبة الثانية

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

 

وبعدُ: أيها الإخوة الكرام:

ومن الدروس المستفادَة من قصة قابيل وهابيل:

5- حاجة البشرية إلى التشريع والأحكام الإلهية:

ختم القصة بآيات تتحدَّث عن ذلك: ﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [المائدة:32].

 

فحاجة البشريَّة الآن إلى التشريع والأحكام الإلهية أشد مِنْ حاجتهم إلى الطعام والشراب، لماذا؟ لأنَّ العقاب الذي وضعه الله تعالى لكل جريمة تحدث في المجتمع، من قتل أو سرقة أو زنا، أو غير ذلك من الجرائم، هذا الحل الصحيح الذي يعالج به المشكلة والجريمة، وهذا حق الله فيه، ويكون الحل الصحيح؛ لأنه هو الذي خلقهم، ويعلم ما في نفوسهم، ويعلم كل شيء، وإليه تُرجع الأمور، ولأنَّ الله تعالى ما أنزل الكتب ولا أرسل الرسل إلا لإصلاح المجتمعات الفاسدة.

الأربعاء، 1 أغسطس 2018

خطبة جمعة بعنوان زفرات مهموم



إنَّ الحمد لله، نَحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يَهْده الله فلا مضلَّ له ومن يضللْ الله فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحْدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ مُحمَّدًا عبدُه ورسوله؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71].

أمَّا بعد: 

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هديُ محمد - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.

الحمد لله على نعمة النِّعَم، ومنَّة المِنَن، الحمد لله على النعمة العظمى، والمنَّة الكبرى، الحمد لله على أعظم نعمةٍ أنعم بها علينا، الحمد لله على أجلِّ منَّةٍ امتنَّ بها علينا، الحمد لله على لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]، الحمد لله الذي أرسل إلينا رسولًا منَّا، يتلو علينا آياته، ويزكِّينا، ويعلِّمنا الكتابَ والحكمة، وإن كنَّا من قبل لفي ضلالٍ مبين، الحمد لله علي كلِّ رسولٍ أرسله، الحمد لله علي كلِّ حقٍّ أحقَّه، الحمد لله علي كلِّ باطلٍ أزهقه، الحمد لله على كلِّ مظلومٍ نصره، الحمد لله على كلِّ ظالمٍ قهره، الحمد لله على كلِّ جبارٍ قَصَمَه، والله أكبر كبيرًا.

الحمد لله الذي جمعنا في هذه الساعة الطيبة المباركة، في هذا اليوم الأزهر، في بيتٍ من بيوت الله - عزَّ وجلَّ - نتدارس آيةً من كتاب الله - عزَّ وجلَّ - أو حديثًا من سنَّة نبيِّنا محمدٍ رسول الله، صلي الله عليه وعلي آله وأصحابه وسلم، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلي يوم الدِّين،، وبعد.

يا عباد الله:

ما أقوله لكم اليوم، ما هو إلاَّ زفراتُ مهمومٍ، وأنَّات مكروبٍ في ظلِّ هذه الأحداث الرَّاهنة.

أمةُ الإسلام خيرُ أمةٍ أُخرجت للناس، كانت في ليلها عابدةً، راكعةً ساجدة، وفي نهارها داعيةً مجاهدة، وانقلب الحالْ، فلا تزال هجمة أعداءِ الله شرسة على دين الله وأوليائه، حتى بلغ اعتداؤهم إلى ديار المسلمين وعقولهم، ومناهج تعليمهم، وإعلامهم؛ بل واحتلُّوا أعزَّ بلدانهم، وروَّعوا أهلها، ويتَّموا أطفالها، ورمَّلوا نساءها، وخرَّبوا بيوتها، ولا تزال الدائرة مستمرة.

وهنا ظننا أن اعتداءَ هؤلاء المجرمين يأتي من محض حقدهم وشرورهم وظلمهم، وهذا أمرٌ لا ينكره ذو لُبٍّ، ولكننا نسينا أنَّ العيبَ فينا، وأنَّنا نحن الذين َ فرَّطنا في دين الله، وفي سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

فلو سألتَ الشبابَ والصغارَ والكبارَ عمَّا يعرفونه عن نبِّيهم - صلى الله عليه وسلم - لوْ دخلت بيوتهم، لوْ تفقَّدت هيئاتهم، لوْ استخرجت ما في عقولهم - لأدركت أنَّ ما يحدث لنا إنَّما هو من محض ظلمنا وتقصيرنا، ويعفو ربُّنا عن كثير.. إننا لا بدَّ أن نعترف أننا نعيش أزمةَ أُمَّة، تلك الأمَّة فقدت مَنْ ينهض بها، غلى الرغم من أنها لمْ تفقد مَا تنهض به.

إنها أُمة هي الأعظم والأشرف؛ لكونها تملك المنهج الذي ارتضاه الله تعالى، وأُسْوَتها فيه سيِّدُ الخَلْق؛ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

فعجبًا لتلك الأمَّة التي بحثت لدى أعدائها حلولاً لمشكلاتها، وهي تملك ذلك لنفسها؛ بل ولأعدائها!! إن المجرمين الحاقدين لمَّا نالوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يكن ذلك الخطأ من محض صنيعهم، ولكن هذا الفعل إنَّما هو من فعلنا، حينما فرَّطنا في كتاب ربِّنا وسنَّة نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم.

ولم يكن أصل العلاج فقط ما اجتهد الناس فيه من مقاطعة الأعداء، وشتمهم، والتَّظاهر بالاعتراض على قبيح فعالهم، وإن كان ذلك لا محالة له شأنٌ في ردِّهم، ولكنه لا يكفي، وإلا فماذا سنفعل إذا تكرَّر الاعتداء؟ ولقد تكرَّر!.

ولعلَّ ما مضى من دروسٍ يحيي فينا عزيمةَ أن نقاطع كلَّ مَنْ عادى الله ورسوله، وأن نعمل على أن يكون لنا كِيانٌ قويٌّ، يكفينا ويكفي غيرنا.

نعم؛ إن العلاج إن لم يبدأ من ذواتنا وبيوتنا، ومساجدنا وصلواتنا، ومعاملاتنا وسائر أحوالنا - فبئس الحلُّ الذي نرجوه؛ {إن َّ الله َ لا َ يُغَيِرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغَيرُوا مَا بأنفسهم}.

فالعلاج هُوَ رجوعٌ كاملٌ، وتوبةٌ نَصوحٌ، واستسلامٌ كاملٌ لشرع الله - عزَّ وجلَّ - وتمسُّكٌ كلِّيٌّ لا يتجزَّأ بسنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم.


إن الكافرين لم يضيِّعوا لنا السنَّة، نحن الذين ضيعناها! لَمْ يقفوا حائلاً على أبواب المساجد يمنعونا من الصلاة فيها، ولكن نحن الذين امتنعنا عنها! لم يكن الكفار هم الذين شغلوا الشباب بالغناء عن القرآن، واللعب عن الصلاة وبالمرح واللهو عن طلب العلم الشرعي!!

وليس الكفار هم الذين نزعوا عن المرأة حجابها، وأبدلوها لباس التبرُّج والسُّفور، ولم توصنا بغلق الكتاتيب، ودور العلم النافع، وإبدالها بصالات (البلياردو) والأندية! ليس هم الذين أشربوا المسلمينَ كراهيةَ الموت وحبَّ الدُّنيا بهذا السَّفه، إلى حدِّ عبوديَّة المال والمتاع، سواء حلالٌ أو حرامٌ.

إنني أطلبُ منكَ أن تسأل ألفَ شابٍّ تختارهم في أيْ مكان، اسألهم عمَّا يعرفونه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمَّا يعرفونه عن أيِّ مطربٍ أو ممثِّلٍ أو لاعب كرةٍ!!

إنني أودُّ - مع حيائي من ذلك - أن أقول لكَ: ليت الشباب يعرفون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يعرفونه عن هؤلاء الساقطين.

ليتهم يعيشون ويفرحون ويهتمون لدينهم، كما يهتمُّون بمتابعة أنديتهم المفضَّلة!!

قد صار عارًا في أُمَّة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أن شوارع بلادها تخلو وقت المباريات أكثر ممَّا تخلو وقت الصلوات المكتوبات أو الجُمُعَات المباركات، أو حيث تنزل الرَّحمات بالذِّكْر وتلاوة الآيات!!


ولكن أخي؛ دعنا من التحسُّر على حالنا، وهيا؛ فلنبدأ بنصر دين ربِّ العالمين، وهذه بعض أسبابٍ لنصر دين الله - عزَّ وجلَّ - منها:

أولاً: العلم

وقد خَصَّ الله العلماء بالخشية؛ لأنهم أَعْرَف الناس بالله، وكلما كان العبد بربِّه أَعْرَفَ؛ كان له ومنه أَخْوَف! فالعلم سببٌ لمرضاة الله تعالى، وسببٌ للحياة الطيبة في الدنيا، والحياة البرزخية، وفي الحياة الآخِرة.

والعلم سببٌ لتقويم السلوك وتهذيب النفوس، وهو سببٌ لمَنْ أخلَص النيَّة في طلبه وتطبيقه للنجاة من الشرور، على اختلاف أنواعها وأجناسها.

وعندما يجتمع الأحبَّة لينهلوا من بعض أحبَّتهم، يَتَعلِّمون ويُعلِّمون - فإنَّ هذا يُعَدُّ قربةً من أعظم القُرُبات، وكان سَلَفُنا يشدُّون الرِّحال طلبًا للعلم، وكثيرٌ منَّا قد قرأ أو سمع ما قام به المحدِّثون من رحلاتهم الطويلة، التي كانت لتقصي الإسناد، ولولا الإسناد لقال مَنْ شاء ما شاء.

فهذا شعبةُ - رحمه الله - يرحل شهرًا كاملاً في طلب حديثٍ واحدٍ سمعه من طريقٍ لم يمرَّ عليه!

بالله عليك أخي تعلَّم؛ فإن الأيام القادمة والحالية أيامٌ حالكةٌ بالظلام! ينكرون الأُصول لا الفروع، ينكرون القرآن والسنَّة؛ فتعلَّم أخي لتواجه هؤلاء المغول الجُدُد، فُأمَّتك مقهورةٌ، والأيدي مقطوعةٌ، والآمال عليك معقودةٌ.

ثانيًا: وقفاتٌ مع الصحابة

أخي الحبيب، إن الصحابة لم يأتوا في وقت تيسَّر لهم كلُّ سُبُل الحياة والمعيشة المترَفة، ولم يكونوا في بلدٍ تزعم أنَّ دينها الرَّسمي الإسلام، لا؛ لم يكونوا كذلك، ولكن كانوا في بلدٍ كافرةٍ بالله - عزَّ وجلَّ - وليس من حولهم مسلمون مقصِّرون كعصرنا نحن؛ بل كان من حولهم كفارٌ.

وكانوا يُبتَلون في الله، ويصبرون على الأذى فيه، ومع كل الظروف التي أحاطت بهم من كل جانب؛ صنعوا أنفسهم، وربَّوا أنفسهم، كما علمهم نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم.

فما الفرق بيننا وبينهم إذًا؟ فما الفرق؟
الفرقُ: أنهم رجالٌ، ونحن لا أقول: أشباهُ رجال، ولكن أقول لكَ: نحن أشباهُ أقزام!!
كان الواحد منهم ينفعل لقول الله - عزَّ وجلَّ - ولقول رسوله - عليه الصلاة والسلام - ويعملون بإخلاصٍ لله - عزَّ وجلَّ – ولِدِينه العظيم، غير هذا الزمان الذي شحَّ فيه الإخلاص والصِّدق لله - عزَّ وجلَّ.

هذا هو الفارق بيننا وبينهم!!

وأقول لكم إخواني: لا تحسبوه شرًّا لكم؛ بل هو خيرٌ لكم؛ فإن الإسلام الذي صنع أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة أجمعين، رضي الله عنهم - قادرٌ على أن يصنع مثلهم؛ لأنَّ الدِّين الذي صنعهم هو الدِّين نفسه الذي بين أيدينا، ولكننا نحن فرَّطنا فيه.

أقولُ لكَ ثانيةً: الإسلام الذي صنع هؤلاء الأبطال، هؤلاء الرجال - قادرٌ على أن يصنع مثلهم، ولكن إذا عرفنا كيف تربَّى هؤلاء؛ فنتأسَّى بهم في كلِّ ما دَقَّ وجَلَّ، فبذلك يأتي النصر والتمكين، وبغير ذلك يأتي السَّخط والعذاب من الله - عزَّ وجلَّ - نعوذ بالله من الخزي والخذلان، والحرمان من نور الإيمان، ونسأله دائمًا العافية والسلامة.

انظر إلى هؤلاء الأبطال: كيف كانوا يسارعون في امتثال أمر الله - عزَّ وجلَّ - وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يعظِّمون ويسارعون إلى تنفيذ أوامر الله – عزَّ وجل - وأوامر رسوله - صلى الله عليه وسلم - عملاً بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59].

فهذه زينب بنت جحش - رضي الله عنها - يخطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفتاه زيد بن حارثة، وحين يفاتحها في ذلك تأبى وتقول: لست بِنَاكِحَتِهِ؛ فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بل فانْكِحِيهِ))، قالت: يا رسول الله، أؤمر نفسي. فبينما هما يتحدثان، إذا بالمولى سبحانه وتعالى ينزل هذه الآية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]، فتقول: قد رَضيتهُ لي يا رسول الله مُنكِحًا؟ فيقول: ((نعم))، فتقول: إذن لا أعصي رسول الله، قد أَنْكَحْتُهُ نفسي.

انظر أخي إلى حال نسائهم وحال نسائنا، وانظر: إلي أين وصل بنا الحال من الذلِّ والهوان، بسبب تفريطنا في أوامر الله - عزَّ وجلَّ - وأوامر رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأحوال رجالهم وأحوال رجالنا، وأحوال أطفالنا وأحوال أطفالهم.

أُمتنا تعيش حالة احتضار.. أُمتنا عددها مليار.. يا له من عار!! والمسلمون يشرَّدون في كل بلاد المسلمين التي تقع تحت أيدي اليهود أو النصارى، فإن الله - عزَّ وجلَّ - كتب علينا بذنوبنا وتفريطنا في دين ربِّنا الذي كتبه على بني إسرائيل من قبلنا.

إذًا؛ علينا أن نرجع إلى حظيرة العبودية من جديد، وأن نكون رجالاً كما كان أجدادنا رجالاً، أما نحن الآن فأشباه أقزام، وما هي إلا أرحامٌ تَدْفَع وأرضٌ تَبْلَع.


انظر أخي الحبيب إلى حال النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول لربِّ العالمين يوم القيامة: ((أُمتي أُمتي... ))، أيُّ آُمَّةٍ يا رسول الله تدعوها؟ أيُّ أُمَّةٍ تدعوها وتريد لها الخير؟ هل هذه الأُمَّة التي فرَّطت في دين الله - عزَّ وجلَّ - وفي سنَّتِكَ يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟

هل هذه الأُمة التي تحلَّلت من دينها؟ يا له من عار!!

إخواني:

يا له من عار! بعد أن كنَّا نسود العالم في كلِّ شيءٍ، انظر كيف انقلبت الأحوال وانقلبت المعايير، فصرنا أَذَلَّ أُمَّةٍ على وجه الأرض! أَذَلَّ أُمَّةٍ يراها التاريخ الآن هي أُمَّة الإسلام!!

إلى أين تذهبين.. إلى أين تذهبين يا أُمَّة محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -؟ ارجعي أيتها الأُمَّة التي كتب الله لها الرِّفعة، ارجعي قبل فوات الأوان.

ثالثًا: التربية الإيمانية

قل لي: كيف؟ أقول لكَ - وبالله التوفيق -:

قيل لأحد الزهَّاد: كيف السبيل ليكون المرء من صفوة الله؟ فقال: "إذا خَلَعَ الرَّاحة، وأَعْطى المجهودَ في الطَّاعة".

وقيل لإمام أهل السنَّة والجماعة أحمد بن حنبل: متى يجد العبد طعمَ الرَّاحة؟ فقال: "عند أوَّل قدمٍ يضعها في الجنة".

أخي الحبيب:

نحن اتَّفقنا أن نتأسَّى بسَلَفِنا الصَّالح في كلِّ ما دَقَّ وجَلَّ، وعلى ذلك أقول: انظر إلى حالهم؟ كانت أوقاتهم بالذِّكْر وتلاوة القرآن معمورةً، ومساجدهم تهتزُّ بضجيج البكاء من خشية الله! تراهم ذابلين من خوف الآخِرة، وعند العبادة تراهم رواسيَ شامخاتٍ، كأنَّهم ما خُلِقوا إلاَّ للطَّاعة!

وانظر أخي الحبيب إلى ليلهم، وما أدراكَ ما ليلهم: كأنهم يُساقون إلى الموت وهم ينظرون.. صلاتهم في ظلامٍ تَجَلَّلَ بأنوار الكرامة، فهم في نعيم الأنس يتقلَّبون، وبلذيذ الخطاب يستمعون.

ولقد تدبَّروا حقيقة الدنيا ومصيرها إلى الآخِرة؛ فاستوحشوا من فِتنتها، وتجافت جنوبهم عن المضاجع، وتناءت قلوبهم عن مطامعها، وارتفعت همَّتهم أعالي الجبال؛ فلا تراهم إلا صوَّامين قوَّامين باكين، ولقد حفلت تراجمهم بأخبارٍ زاخرةٍ، تُنبئ بعلوِّ همَّتهم في التوبة والاستغفار والاستقامة، وقوَّة عزيمتهم في العبادة والإخبات.

أخي الحبيب:

أقول لكَ هذا الكلام، لا ليطير قلبي وقلبك مع هؤلاء الأفاضل فقط؛ بل لنعمل كما عملوا، فهل يا تُرى سنعمل كما عملوا؟ قل معي: إن شاء ربِّي وقدَّر سنعمل.

أخي الحبيب:

إن الإسلام الذي صنع هؤلاء الأفاضل، هو هو الإسلام الذي بين أيدينا.

أخي الحبيب:

إني أراك متشوقًا لطاعة الله - عزَّ وجلَّ - هل هذا الإحساس صحيحٌ؟ هل من استجابةٍ لهذا الكلام؟ أتمنى ذلك لي ولك.

فَتَشَبَّهُوا إِنْ لَمْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ        إِنَّ  التَّشَبُّهَ   بِالْكِرَامِ   فَلاَحُ


أخي الحبيب:

ملخص ما قلتُ لك في هذا العنصر هو: أحبُّ أن أراكَ أيها الأخ الطيِّب الحبيب محافظًا على الصلوات الخمس في جماعة، متأسِّيًا بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في كلِّ ما دَقَّ وجَلَّ، وبالصَّحابة الكرام والسَّلَف الصَّالح - رضي الله عنهم أجمعين.

أريدكَ مسلمًا ملتزمًا مثاليًّا؛ ليرضى عنك ربُّكَ سبحانه وتعالى؛ فهل من مجيب؟!

رابعًا: المحاسبة اليومية وأُصولها



شَارِطِ النَّفْسَ وَرَاقِبْ        لاَ تَكُنْ  مِثْلَ  الْبَهَائِمْ
ثُمَّ  حَاسِبْهَا  وَكَاتِبْ        وَعَلَى   هَذَا    فَلازِمْ
ثُمَّ جَاهِدْهَا  وَعَاقِبْ        هَكَذَا  فِعْلُ  الأَكَارِمْ


أخي الحبيب:

قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعدٌ تحت جبلٍ، يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه، فقال به هكذا))؛ هذا الحديث عند الإمام البخاري.

لأنَّ همَّة أبناء الآخِرة تأبى إلاَّ الكمال، وأقلَّ نقصٍ يعدُّونه أعظم عيب، كانت المحاسبة، والمحاسبة معناها: فحص الطاعة ظاهرًا وباطنًا، وأولاً وآخِرًا، بحثًا عن الثمرة؛ ليعرف ما أتاها فيحفظه.

والمحاسبة تكون قبل العمل وأثناءه وبعده؛ فكان ابن عمر أُسوةً لنا، عندما فاتته صلاة الجماعة صام يومًا وأحيى ليلةً وأعتق رقبةً.


توبوا إلى الله واستغفروه؛ عسى أن يكون فينا مَنْ يستجيب الله بشفاعته.



الخطبة الثانية

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعد:

أيها الأخوة الكرام:

 إنَّ ما قلتُهُ لكم يتطلَّب الصبرَ على الأذى، ووقوع الاستهزاء من المنافقين؛ فهذه سُنَّة الله تعالي التي أخبرنا بها، فقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186].

اسمع، إن الله تعالى يخبرك أنك ستسمع الأذى من الذين أوتوا الكتاب، وممَّن تولّوا، ومن المنافقين أذًى كثيرًا؛ فلابد من وقوع ذلك.

وذكر البخاري عند تفسير هذه الآية، عن عروة بن الزُّبير، أنَّ أسامة بن زيد حدَّثه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركب على حمارٍ عليه قطيفة فُدَكِيَّة، وأردف أسامة بن زيد وراءه، يعود سعدًا بن عبادة ببني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر، حتى مرَّ على مجلسٍ فيه عبدالله بن أُبَيِّ ابن سَلول، وذلك قبل أن يُسلِم ابن أبيّ، وإذا في المجلس أخلاطٌ من المسلمين والمشركين عَبَدَةِ الأوثان، وأهل الكتاب اليهود، والمسلمين، وفي المجلس عبدالله بن رَوَاحَةَ، فلما غشيت المجلس عجاجةُ الدابَّة؛ خمَّر عبدالله بن أبي أنفه بردائه وقال: لا تغبِّروا علينا. فسلَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم وقف، فنزل فدعاهم إلى الله - عزَّ وجلَّ - وقرأ عليهم القرآن؛ فقال عبدالله بن أبي: "أيها المرء، إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقًّا، فلا تؤذنا به في مجالسنا. ارجع إلى رَحْلِكَ؛ فمَنْ جاءك فاقْصُصْ عليه". فقال عبدالله بن رَوَاحَة - رضي الله عنه -: "بلى يا رسول الله، فاغْشَنا به في مجالسنا؛ فإنا نحبُّ ذلك". فاستبَّ المسلمون والمشركون واليهود، حتى كادوا يتثاورون (ابن كثير)..

انظر كيف قابل نعمة الله بالاستهزاء!! وحتى يعلم كلٌ أحدٍ أنه لابد من وقوع الأذى، ولابد من وقوع الاستهزاء، فهذه سنَّةٌ ماضيةٌ، لا يستطيع أحدٌ أن يدفعها؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين: 29-31].

الله تعالى يخبر عن المجرمين أنهم كانوا في الدنيا يضحكون من المؤمنين؛ أي: يستهزئون بهم ويحتقرونهم، ويقولون: لا تغترُّوا بهؤلاء؛ فإنهم دعاةُ أموال وسلطان، فإنهم يدخلون على الناس من باب العلاج بالجنِّ، فإنهم يغتسلون من الزِّنا في دورة مياه المسجد!! لا تغترُّوا بذلك!!

وإذا مرُّوا بالمؤمنين يتغامزون عليهم؛ أي: محتقرين لهم، وإذا انقلب؛ أي: رجع هؤلاء المجرمون إلى منازلهم؛ انقلبوا إلي الشقق الفارهة، انقلبوا إلى عمارتهم العالية، إلى المرتَّبات، انقلبوا إليها فَكِهين؛ أي: ومع هذا ما شكروا نعمة الله عليهم؛ بل اشتغلوا بالقوم المؤمنين؛ يحقِّرونهم ويحسدونهم.

وقد وقع الأذى في زمن الدعوة؛ قال تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8].

كلُّ هذا حتى يعلم كلُّ أحدٍ ينتسب إلى هذا الدِّين أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - له في ذلك حكمةٌ بالغة، وأن الصحابة كانوا أيضًا يُبْتَلون في الله، ويصبرون على الأذى فيه، وأنَّ الدِّين الذي صنع هؤلاء قادرٌ على أن يصنع مثلهم.

قال مالك بن الدَّخْشَن - وكان من المنافقين -: ألم أقل لكم: لا تنفقوا على مَنْ عند رسول الله حتى ينفضُّوا؟

انظر، هذه والله سنَّةٌ ماضيةٌ في النفاق وأهله، قومٌ يرون أن الدَّعوة تنتشر، قومٌ يرون أن المارد العملاق قد قام؛ فيقولون: لا تنفقوا على هذه الدَّعوة؛ حتى ينفضَّ أَولئك الشباب عن هؤلاء الأدعياء.

قومٌ لا يرون إلا جهدهم، فينفقون هم حتى يوقفوا هذا الزَّحْف الجديد، هذه الريح الإيمانية الجديدة، فينفقون أموالهم في البرامج والأفلام!! فهؤلاء لا يعلمون سرَّ الدَّعوة.

إنَّ الله تعالى يقول لنبيِّه: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 21]، فهو – صلى الله عليه وسلم - وظيفته التذكير فقط.


لا يعلمون أنَّ ما من مولودٍ يخرج من قُبُل أمِّه، حتى يُكتب عند الله: شقيٌّ أم سعيدٌ، فلا يستطيع أحد ٌ أن يُشقيَ مَنْ أَسْعَدَهُ الله، ولا يستطيع أحدٌ أن يُسْعِدَ مَنْ أشقاه الله، لو اجتمعت شياطين الإنس والجن، لو وقفت بعضها على بعضٍ؛ فلا يستطيع أحدٌ أن يُشقيَ مَنْ أسعده الله، ولا يستطيع أحدٌ أن يُسْعِدَ مَنْ أشقاه الله.

قال تعال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36]، إن الذين كفروا ينفقون أموالهم في البرامج، الأفلام؛ فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرةً، ثم يُغْلَبون.

وآخِر دعوانا: أن الحمد لله ربِّ العالمين.


سبحانكَ اللهمَّ وبحمدكَ، أشهدُ أن لا إله إلا أنتَ، أستغفركَ وأتوبُ إليكَ.

أفضل أيام الله







أفضل أيام الله


إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71].

أما بعدُ:فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

الحمد لله على نعمة النعم، ومنة المنن، الحمد لله على النعمة العظمى، والمنة الكبرى، الحمد لله على أعظم نعمة أنعم بها علينا، الحمد لله على أجل منة امتنَّ بها علينا، الحمد لله على "لا إله إلا الله، محمد رسول الله".

الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، الحمد لله الذي أرسل إلينا رسولاً منا يتلو علينا آياته ويزكينا، ويعلمنا الكتاب والحكمة، وإن كنا من قبل لفي ضلال مبين، الحمد لله على كل رسولٍ أرسله، الحمد لله على كل حق أحقَّه، الحمد لله على كل باطلٍ أزهقه، الحمد لله على كل مظلوم نصره، الحمد لله كل ظالمٍ قهره، الحمد لله على كل جبارٍ قصمه، والله أكبر كبيرًا.

وبعدُ:
أيها الإخوة الأحباب، عنوان مقالي معكم اليوم باسم: "أفضل أيام الله".

المحور الأول: فضل أيام العشر من ذي الحجة:أحب الأشهر إلى الله تعالى الأشهر الحرم، وأحبها إليه شهر ذي الحجة، وأفضل أيام ذي الحجة العشر الأول، التي أقسم الله بها في كتابه - تبارك وتعالى - فقال: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1، 2]، قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل وغيرهم: هي عشر ذي الحجة.

وهي الأيام المعلومات التي ذكرها الله - سبحانه وتعالى - في كتابه الكريم؛ فقال: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28].

فالأيام المعلومات هي العشر الأول من ذي الحجة، والأيام المعدودات هي أيام التشريق الثلاث: الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من ذي الحجة.
وهي أفضل أيام الدنيا؛ كما جاء ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: ((أفضل أيام الدنيا أيام العشر))[1].

وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام))؛ يعني: عشر ذي الحجة، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلاً خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء))؛ صحيح، أخرجه أبو داود، وله لفظ آخر عند البخاري.

ومن فضائل العشر من ذي الحجة:
1- أقسم الله بها.
2- الأمر بكثرة التسبيح التهليل والتكبير فيها.
3- أن فيها يوم التروية.
4- أن فيها يوم عرفة.
5- أن فيها ليلة مزدلفة، أو جمعًا، أو المشْعر الحرام.
6- أن فيها رمي الجمرات تعبدًا لله تعالى.
7- أن فيها الحج الذي هو رُكْن عظيمٌ من أركان الإسلام.
8- أن فيها يوم النحر.
9- أن فيها ذبح الهدْي والأضاحي.
10- أنها أفضل من الجهاد في سبيل الله.
11- صوم أيامه.

فيا أيها الأخ الحبيب:
ألا تُحب أن تكون من العاملين في هذه الأيام المباركة، ألا تُحب أن تكون من العاملين في أفضل أيام الله - عز وجل - التي يعطيها الله - عز وجل - هدية لعباده المتقين، لعباده الطائعين؛ لكي يُعظم لهم الأجْر في الأيام، ألا تُحب أن تتأسَّى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه، وتعلم ماذا كان يعمل فيه فتعمل؟! وإليك بعضَ الأعمال في هذه الأيام.

المحور الثاني: أعمال في العشر الأوائل من ذي الحجة: 
Ÿ الذِّكر:
فضل الذِّكر:
جاءتْ جملة من الأدلة التي تدل على استحبابه بصفة عامة، وفي هذه الأيام على وجه الخصوص، فمن فضْل الذكر ما ذُكِر في كتاب الله - سبحانه -: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35].

وقد ورد حديث آخر في "مستدرك الحاكم" بسَنَد ظاهره الصِّحَّة، وإن كان فيه نزاع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أولا أدلكم على خير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم مِن أن تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق؟))، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((ذكر الله)).

اعلموا هذا - أيها الأحباب - ألا تُحبون أن تكونوا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات؟!

هذا فضل الذكر، فما هي فوائده؟
محبة الله لمن أكثر ذكره:
ومِن ذَكَر الله أَحَبَّهُ الله؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن لله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، وأن يشرب الشربة فيحمده عليها))، فالله يرضى عنك إذا أكلت فقلت: الحمد لله، أو شربت فقلت: الحمد لله، وكذلك إلحاقًا إذا نمت فقلت: الحمد لله، ((الحمد لله الذي كفانا وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي!)).

ويرضى عنك إذا قمت من نومك فقلت: ((الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور))، ويرضى عنك إذا ركبت فسبحت فقلت: ((سبحان الذي سخر لنا هذا، وما كنَّا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون)).

ذكر الله تكثيرٌ لحسنات العبْد عند الله:
الرسولُ - عليه الصلاة والسلام - لما جاءه فقراء المهاجرين وأخبروه بقولهم: ((ذهب أهل الدثور بالأجور، وبالدرجات العلى والنعيم المقيم))، ودلَّهُم على الذكر، سمع الأغنياء بالذي تعلمه الفقراء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصنعوا كصنيعهم، فجاء الفقراء مرة أخرى إلى رسول الله، فماذا قال الرسول؟ قال: ((ذلك فضْل الله يؤتيه من يشاء)) - سبحانه وتعالى.

وقال النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((نِعْم المال الصالح للعبد الصالح))، وقال النبي - عليه الصلاة والسلام - كذلك: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويعلمها)).

الشاهد:
أن الغني الشاكر محمود على كل حال، وليس المقام مقام تفصيل وتفضيل بين الغني الشاكر أو الفقير الصابر، ولكن المراد أن الغني الشاكر محمود على كل حال، فليكن حالك هكذا دائمًا، يدور بين الشكر عند النَّعماء، وبين الصبر والرضا بالقضاء عند الضرَّاء.

بذكر الله تنزل السكينة، وتحف الملائكة، وتغشى الرحمة، الملائكة تنزل على الذاكرين الله والذاكرات، وعلى التالين لكتاب الله، السكينة تغشاهم كذلك، الرحمات تَتَنَزَّل عليهم كذلك، وفضلاً عن ذلك، فإن الرب - سبحانه وتعالى - يذكرهم.

ذكر الله جالبٌ للأرزاق:
أما جلب ذكر الله للأرزاق، فإنَّ الدُّعاء من ذكر الله؛ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، والاستغفار مِن ذِكْر الله؛ قال نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 - 12].

فضلاً عن الأجْر الأُخْروي المدَّخَر للذاكر؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا حول ولا قوة إلا بالله كنْز من كنوز الجنة))، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إليّ مما طلعتْ عليه الشمس)).

وآخر ما أقول في هذه الجزئية: إن أعظم الذِّكر كتاب الله تعالى.

من ذكر الله فلا ينبغي أن يغفل: تلاوة كتابه الذي هو أفضل الكلام؛ كما قال الرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -: ((لكل حرف منه حسنة، والحسنة بعشر أمثالها))، (الم) ثلاثون حسنة، وبعد ذلك يضاعِف الله لِمَنْ يشاء.

بتلاوة كتاب الله وبحفظه ترتفع درجاتك؛ قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((يُقال لصاحب القرآن يوم القيامة: اقرأ وارتق ورتل، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها))، هكذا قال الرسول - صلى الله عليه وسلم.

فأكثر من قراءة كلام الله خاصة في هذه الأيام العشر، وكذلك الذكر عمومًا.

ومن الأعمال أيضًا في هذه الأيام: 
Ÿ الصيام وصيام يوم عرفة:
في الباب حديثان: أحدهما حديث عائشة: ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - صائمًا العشر قط.
والثاني: حديث هنيدة بن خالد واختلف عليه، فرواه مرة عن امرأته عن بعض أزواج النبي، ومرة عن أمه عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ومرة عن حفصة، كل رواياته فيها: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصوم التسع الأول من ذي الحجة.

فبعضُ العلماء يقول: المثبِت مقدم على النافي، أو أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يصومها سنوات، ولا يصومها سنوات أخرى.

وقول آخر من الأقوال: إنها تندرج - أي: صيامها - تحت الأعمال الصالحة في حديث رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله - عز وجل - من هذه الأيام)).

وأخرج الجماعة إلا البخاري والترمذي عن قتادة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:  ((صوم يوم عرفه يكفر ذنوب سنتين - ماضية ومستقبلية - وصوم يوم عاشوراء يكفر سنة ماضية)).
 


 
ـــــــــــــــــــــ
[1]   رواه البَزَّار، وابن حبان وصححه الألباني في "صحيح الجامع" برقم 1144، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إلى الله العمل فيهن من أيام العشر، فأكثروا فيهن من التسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير))؛ رواه أحمد والطبراني.




لماذا لا نبكي من خشية الله ؟


لماذا لا نبكي من خشية الله ؟

كثير منا من يقرأ القرآن ويداوم على الصلاة ويحافظ على السنن،ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وقد يصوم بعضنا الأيام المستحب صيامها ، وكل هذه أعمال عظيمة ولله الحمد.

رغم هذا فإنه يتبادر إلى ذهني سؤال يحيرني ويزعجني وهو: لماذا لا أبكي من خشية الله؟ كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يبكون عند أدنى شيء يذكرهم بالله جل وعلا. فهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عـنـدمـا قرأ في صلاة الفجر قوله تعالى : ((فَإذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ)) شهق شهقة قوية ، فسقط فجلس يعاد في بيته وهو على فراشه أسبوعاً كاملاً.

وهذه قصة عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- عندما جاء بيته وجلـس على فـراشه وهو يبكي ، فجاءت زوجه فاطمة فبكت لبكائه ، وبكى الخدم لبكائهما ، وعندما سكت قالت له : بأبي وأمي ما يبكيك ، قال : تذكرت موقفي يوم العرض. وغيرها كثيرة معلومة. وقد يكون السبب في ذلك والله أعلم :

1- عدم حضور القلب حضوراً تاماً في الصلاة ، والتلذذ فيها هي أو غيرها من العبادات ، والغفلة عن تلاوة القرآن وتدبره. يقول ابن القيم -رحمه الله- : إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه ، وألق سمعك ، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه ، فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله. قال تعالى : ((إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وهُوَ شَهِيدٌ)) [ق:37].

2- ما يعتري القلب من أمراض معنوية كالحسد وحب الرئاسة وإظهار النفس وحب المال والكبر وغيرها.

3- الاهتمام بجانب واحد وإهمال الجانب أو الجوانب الأخرى ، كمن يهتم بتلاوة القرآن ولا يترك فضول الكلام ، فهنا لن تحصل تمام الخشية والإنابة على الوجه المطلوب.

4- العكوف والإصرار على المعصية مما يجعل القلب يقسو وينكت فيه نكتة سوداء. والركون إلى شيء من حطام الدنيا الزائل.

المَلَل من كَواذب الأخلاق

جاء في "صحيح ابن حبان" عن عـائـشـة -رضي الله عنها- تصف خلقاً من أخلاق الرسول -صلى الله عليه وسلم-   قالت :"كــان عـمـلـه...