عوامل الذل
ما الذي يجعل شخصاً ما، أو شعباً من الشعوب، ذليلاً؛ خاضعاً، مكسور الشوكة، مهيض الجناح؟ لا شك أن وراء ذلك سبباً ، أو أسباباً أدت إليه.
أما الأسباب الذاتية: فهي قابلية وأهلية للخضوع، تكبر مع الزمن، في ظل غلبة الشهوات والانقياد إلى حب الدنيا وما بها من متاع زائل.
إن الأمة عندما تصبح الشهوات فيها هي المتحكمة ، وتجعل هدفاً رئيسياً لها: “تحقيق الرفاه المادي”، بأي شكل تحقق هذا الرفاه ؛ تكون قد دخلت طور الانهيار والاضمحلال من بابه الواسع. قد تعيش سنوات – تطول أو تقصر – في ظل هذا العبث ، وقد يزدهر اقتصادها ويتضخم إنتاجها ، ويخدعها كل ذلك عن النهاية المحتومة التي ستصير إليها يوماً ما ، ولكن ريحها ستذهب ، ودولتها ستدول لا محالة ، بل إن الأمة التي تفشو فيها مثل هذه المفاهيم تصبح ألعوبة لفئة قليلة تميل بها ذات اليمين وذات الشمال ، وقد وصف الله تعالى في كتابه العزيز هذه الحالة ، ممثلة في قوم فرعون فقال ، عز وجل: ((فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ)) [سورة الزخرف 54].
فأي طاغية لا يبسط سيطرته على الجماهير إلا بعد أن تسقط هذه الجماهير صرعى الشهوات والمطامع ، وتتمرغ في أوحال الفسق والبعد عن الحق ، وعدم الالتفات إلى هدي الله والتمسك بحبله ، وتستبدل ميزان الهوى بميزان الإيمان ، أما المؤمنون الذين يبصرون الحقائق بنور الهداية ، ويَزِنون لأمور بميزان الإيمان ، فمن الصعب -إن لم يكن من المستحيل – الاستخفاف بهم، وتوجيههم الوجهة التي تجعلهم غثاء كغثاء السيل”.
وأما الأسباب الخارجية: فلها ارتباط قوي بالأسباب الذاتية ، ارتباط النتيجة ، بالسبب.
فعندما تغفل الأمة عن مقومات وجودها ، يسطو على قيادتها نفر لا يحملون الا الأهلية التي يتمتع بها الغاصب المتغلب ، ولا يمتازون إلا بما يمتاز به قطاع الطرق ، من الجرأة على سفك الدماء ، وعند ذلك تكمل الدائرة ، وتتواصل حلقات السلسلة التي يجد الأفراد والأمة أنفسهم محاطين بها ، وبعد أن كانت حالة الذل الأولى مجرد قابلية ، يصبح الواقع الجديد للأمة مدرسة منظمة لهذا الخلق الذميم ، فكل الجهود الجماعية للأمة تصبح موجهة لتغرس مفهوم الذل في النفوس.
فالقوانين ، التي تشرع، والعادات التي تشجع، والثقافة التي تسود ، والأجهزة والقنوات الإعلامية التي ينفق عليها من كدح الأمة وعرقها ، كل ذلك يسير في اتجاه واحد هو تثبيت معاني الذل والخنوع ، وتجريد الأفراد من كل معاني عزة النفس والعفة ، وضرب وتشويه كل خلق يشير إلى تماسك الشخصية ، والبعد بها عن كل مواطن الطهارة النفسية والجسدية ، والعمل ، ليل نهار ، من أجل اقتلاع أخلاق راسخة حفظت للأمة كيانها ، وأمسكت عليها وجودها مميزاً ، وذلك بالتشكيك تارة ، وبالسخرية من هذه الأخلاق تارة أخرى ، وبالجرأة الوقحة التي يُغالي في الإنفاق عليها ، وإغداق المال والجوائز والألقاب على من يتولون كِبْرَها ، في الوقت الذي تهدر فيه الكرامات ، وتداس فيه الحريات ، وتكمُّ فيه أفواه الحق ، وتطلق فيه ألسنة الباطل ، وتنقبض فيه الأيدي عن البذل في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وإذا بقيت – بعد كل هذا – بقية لم يؤثر فيها هذا الإلحاح المتواصل على ” غسل مخها ” والتخلي عما تعتقده وتراه ، ووقفت – ما أمكنها ذلك – صابرة مرابطة محتسبة ؛ فهناك علاج من نوع آخر لمن لا تؤثر فيه هذه المؤثرات ، حيث يؤخذ بالشدة والعنف ، ويحارب في رزقه ، وحريته ، وسمعته.
فمن الأمور التي عملت على تعميق الذل و ” تسويقه ” وانتشاره على أوسع مساحة من الناس ، ما يرونه من البطش والجبروت في استخدام الأسلحة المتطورة ، إن كل من تسوِّل له نفسه أن يفكر – ولو بصمت – بطريقة تخالف منطق الاستبداد والقهر ، فضلاً عن استخدام حقه في التفكير عالياً ؛ والتعبير عما يبدو له بشكل يتعارض ونية قاهريه ، سيجد أمامه – أنّى التفت ، وحيثما توجه -لافتة مكتوباً عليها: ” انج سعد ، فقد هلك سُعيد ” .
إن ذل الأمم مقدمة لظهور الفساد بشتى صنوفه وألوانه ، وإن ما يصيبها من الظلم ، وما تُرمى به من صنوف البلاء: كالفقر ، وانعدام الأمن ، وهدر الحقوق ، وتسلط الرعاع والسِّفْلة ، و… كل ذلك ليس إلا ابتلاء من الله ، وعقوبة منه على التفريط ، وحب الدنيا ، ونسيان الآخرة ، وصدق الله العظيم إذ يقول: ((ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)) (الروم 41).
وكم بين واقع الأمة الإسلامية اليوم ، والواقع الذي أوصى فيه أبو بكر – رضي الله عنه – خالد بن الوليد ، غداة مسيره لمحاربة المرتدين: ” احرص على الموت توهب لك الحياة ” ، فكانت حياة خالد وجنده من الصحابة الكرام ترجمة عملية لهذه الوصية ، مما جعله يقول لهرقل ، قبيل معركة اليرموك: “.. لقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحب -أنت – الحياة “.
لقد مرت على المسلمين فترات مظلمة – كهذه الفترة أو أشد – مستهم فيها البأساء والضراء وزلزلوا ، فحينما اجتاح التتار العالم الإسلامي ، ضج السهل والجبل من كثرة ما أريق من دماء المسلمين ، وأشفق المؤرخون من هول ذكره ، وبلغ الذل بالناس إلى الحد الذي جعل الجندي الأعزل ، من المغول ، يأمر الرجل ، فيضع خده وعنقه على الأرض ، ثم يأمره أن يظل على هذه الحال ، بلا حراك ، ومن غير ما حارس يحرسه، حتى يذهب هذا ويحضر سلاحاً يحتز به رقبته!!.
وفي كل مرة زحف – ويزحف – فيها التتار والمغول وأشباههم ؛ يعملون على قذف الرعب ، واستلال روح المقاومة من النفوس ، ولم يوقف زحف المغول الأصفر إلا هتاف: “وا إسلاماه”، الذي تردد مرة في بطاح عين جالوت.
ولن يوقف المغول والتتار ، ومن في حكمهم ، إلا مثل هذا الهتاف: “وا إسلاماه”.
كتبه د ايمن الاصبحعوامل الذل
ما الذي يجعل شخصاً ما، أو شعباً من الشعوب، ذليلاً؛ خاضعاً، مكسور الشوكة، مهيض الجناح؟ لا شك أن وراء ذلك سبباً ، أو أسباباً أدت إليه.
أما الأسباب الذاتية: فهي قابلية وأهلية للخضوع، تكبر مع الزمن، في ظل غلبة الشهوات والانقياد إلى حب الدنيا وما بها من متاع زائل.
إن الأمة عندما تصبح الشهوات فيها هي المتحكمة ، وتجعل هدفاً رئيسياً لها: “تحقيق الرفاه المادي”، بأي شكل تحقق هذا الرفاه ؛ تكون قد دخلت طور الانهيار والاضمحلال من بابه الواسع. قد تعيش سنوات – تطول أو تقصر – في ظل هذا العبث ، وقد يزدهر اقتصادها ويتضخم إنتاجها ، ويخدعها كل ذلك عن النهاية المحتومة التي ستصير إليها يوماً ما ، ولكن ريحها ستذهب ، ودولتها ستدول لا محالة ، بل إن الأمة التي تفشو فيها مثل هذه المفاهيم تصبح ألعوبة لفئة قليلة تميل بها ذات اليمين وذات الشمال ، وقد وصف الله تعالى في كتابه العزيز هذه الحالة ، ممثلة في قوم فرعون فقال ، عز وجل: ((فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ)) [سورة الزخرف 54].
فأي طاغية لا يبسط سيطرته على الجماهير إلا بعد أن تسقط هذه الجماهير صرعى الشهوات والمطامع ، وتتمرغ في أوحال الفسق والبعد عن الحق ، وعدم الالتفات إلى هدي الله والتمسك بحبله ، وتستبدل ميزان الهوى بميزان الإيمان ، أما المؤمنون الذين يبصرون الحقائق بنور الهداية ، ويَزِنون لأمور بميزان الإيمان ، فمن الصعب -إن لم يكن من المستحيل – الاستخفاف بهم، وتوجيههم الوجهة التي تجعلهم غثاء كغثاء السيل”.
وأما الأسباب الخارجية: فلها ارتباط قوي بالأسباب الذاتية ، ارتباط النتيجة ، بالسبب.
فعندما تغفل الأمة عن مقومات وجودها ، يسطو على قيادتها نفر لا يحملون الا الأهلية التي يتمتع بها الغاصب المتغلب ، ولا يمتازون إلا بما يمتاز به قطاع الطرق ، من الجرأة على سفك الدماء ، وعند ذلك تكمل الدائرة ، وتتواصل حلقات السلسلة التي يجد الأفراد والأمة أنفسهم محاطين بها ، وبعد أن كانت حالة الذل الأولى مجرد قابلية ، يصبح الواقع الجديد للأمة مدرسة منظمة لهذا الخلق الذميم ، فكل الجهود الجماعية للأمة تصبح موجهة لتغرس مفهوم الذل في النفوس.
فالقوانين ، التي تشرع، والعادات التي تشجع، والثقافة التي تسود ، والأجهزة والقنوات الإعلامية التي ينفق عليها من كدح الأمة وعرقها ، كل ذلك يسير في اتجاه واحد هو تثبيت معاني الذل والخنوع ، وتجريد الأفراد من كل معاني عزة النفس والعفة ، وضرب وتشويه كل خلق يشير إلى تماسك الشخصية ، والبعد بها عن كل مواطن الطهارة النفسية والجسدية ، والعمل ، ليل نهار ، من أجل اقتلاع أخلاق راسخة حفظت للأمة كيانها ، وأمسكت عليها وجودها مميزاً ، وذلك بالتشكيك تارة ، وبالسخرية من هذه الأخلاق تارة أخرى ، وبالجرأة الوقحة التي يُغالي في الإنفاق عليها ، وإغداق المال والجوائز والألقاب على من يتولون كِبْرَها ، في الوقت الذي تهدر فيه الكرامات ، وتداس فيه الحريات ، وتكمُّ فيه أفواه الحق ، وتطلق فيه ألسنة الباطل ، وتنقبض فيه الأيدي عن البذل في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وإذا بقيت – بعد كل هذا – بقية لم يؤثر فيها هذا الإلحاح المتواصل على ” غسل مخها ” والتخلي عما تعتقده وتراه ، ووقفت – ما أمكنها ذلك – صابرة مرابطة محتسبة ؛ فهناك علاج من نوع آخر لمن لا تؤثر فيه هذه المؤثرات ، حيث يؤخذ بالشدة والعنف ، ويحارب في رزقه ، وحريته ، وسمعته.
فمن الأمور التي عملت على تعميق الذل و ” تسويقه ” وانتشاره على أوسع مساحة من الناس ، ما يرونه من البطش والجبروت في استخدام الأسلحة المتطورة ، إن كل من تسوِّل له نفسه أن يفكر – ولو بصمت – بطريقة تخالف منطق الاستبداد والقهر ، فضلاً عن استخدام حقه في التفكير عالياً ؛ والتعبير عما يبدو له بشكل يتعارض ونية قاهريه ، سيجد أمامه – أنّى التفت ، وحيثما توجه -لافتة مكتوباً عليها: ” انج سعد ، فقد هلك سُعيد ” .
إن ذل الأمم مقدمة لظهور الفساد بشتى صنوفه وألوانه ، وإن ما يصيبها من الظلم ، وما تُرمى به من صنوف البلاء: كالفقر ، وانعدام الأمن ، وهدر الحقوق ، وتسلط الرعاع والسِّفْلة ، و… كل ذلك ليس إلا ابتلاء من الله ، وعقوبة منه على التفريط ، وحب الدنيا ، ونسيان الآخرة ، وصدق الله العظيم إذ يقول: ((ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)) (الروم 41).
وكم بين واقع الأمة الإسلامية اليوم ، والواقع الذي أوصى فيه أبو بكر – رضي الله عنه – خالد بن الوليد ، غداة مسيره لمحاربة المرتدين: ” احرص على الموت توهب لك الحياة ” ، فكانت حياة خالد وجنده من الصحابة الكرام ترجمة عملية لهذه الوصية ، مما جعله يقول لهرقل ، قبيل معركة اليرموك: “.. لقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحب -أنت – الحياة “.
لقد مرت على المسلمين فترات مظلمة – كهذه الفترة أو أشد – مستهم فيها البأساء والضراء وزلزلوا ، فحينما اجتاح التتار العالم الإسلامي ، ضج السهل والجبل من كثرة ما أريق من دماء المسلمين ، وأشفق المؤرخون من هول ذكره ، وبلغ الذل بالناس إلى الحد الذي جعل الجندي الأعزل ، من المغول ، يأمر الرجل ، فيضع خده وعنقه على الأرض ، ثم يأمره أن يظل على هذه الحال ، بلا حراك ، ومن غير ما حارس يحرسه، حتى يذهب هذا ويحضر سلاحاً يحتز به رقبته!!.
وفي كل مرة زحف – ويزحف – فيها التتار والمغول وأشباههم ؛ يعملون على قذف الرعب ، واستلال روح المقاومة من النفوس ، ولم يوقف زحف المغول الأصفر إلا هتاف: “وا إسلاماه”، الذي تردد مرة في بطاح عين جالوت.
ولن يوقف المغول والتتار ، ومن في حكمهم ، إلا مثل هذا الهتاف: “وا إسلاماه”.
كتبه د ايمن عبد العظيم …..دكتور بجامعة الازهر
ما الذي يجعل شخصاً ما، أو شعباً من الشعوب، ذليلاً؛ خاضعاً، مكسور الشوكة، مهيض الجناح؟ لا شك أن وراء ذلك سبباً ، أو أسباباً أدت إليه.
أما الأسباب الذاتية: فهي قابلية وأهلية للخضوع، تكبر مع الزمن، في ظل غلبة الشهوات والانقياد إلى حب الدنيا وما بها من متاع زائل.
إن الأمة عندما تصبح الشهوات فيها هي المتحكمة ، وتجعل هدفاً رئيسياً لها: “تحقيق الرفاه المادي”، بأي شكل تحقق هذا الرفاه ؛ تكون قد دخلت طور الانهيار والاضمحلال من بابه الواسع. قد تعيش سنوات – تطول أو تقصر – في ظل هذا العبث ، وقد يزدهر اقتصادها ويتضخم إنتاجها ، ويخدعها كل ذلك عن النهاية المحتومة التي ستصير إليها يوماً ما ، ولكن ريحها ستذهب ، ودولتها ستدول لا محالة ، بل إن الأمة التي تفشو فيها مثل هذه المفاهيم تصبح ألعوبة لفئة قليلة تميل بها ذات اليمين وذات الشمال ، وقد وصف الله تعالى في كتابه العزيز هذه الحالة ، ممثلة في قوم فرعون فقال ، عز وجل: ((فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ)) [سورة الزخرف 54].
فأي طاغية لا يبسط سيطرته على الجماهير إلا بعد أن تسقط هذه الجماهير صرعى الشهوات والمطامع ، وتتمرغ في أوحال الفسق والبعد عن الحق ، وعدم الالتفات إلى هدي الله والتمسك بحبله ، وتستبدل ميزان الهوى بميزان الإيمان ، أما المؤمنون الذين يبصرون الحقائق بنور الهداية ، ويَزِنون لأمور بميزان الإيمان ، فمن الصعب -إن لم يكن من المستحيل – الاستخفاف بهم، وتوجيههم الوجهة التي تجعلهم غثاء كغثاء السيل”.
وأما الأسباب الخارجية: فلها ارتباط قوي بالأسباب الذاتية ، ارتباط النتيجة ، بالسبب.
فعندما تغفل الأمة عن مقومات وجودها ، يسطو على قيادتها نفر لا يحملون الا الأهلية التي يتمتع بها الغاصب المتغلب ، ولا يمتازون إلا بما يمتاز به قطاع الطرق ، من الجرأة على سفك الدماء ، وعند ذلك تكمل الدائرة ، وتتواصل حلقات السلسلة التي يجد الأفراد والأمة أنفسهم محاطين بها ، وبعد أن كانت حالة الذل الأولى مجرد قابلية ، يصبح الواقع الجديد للأمة مدرسة منظمة لهذا الخلق الذميم ، فكل الجهود الجماعية للأمة تصبح موجهة لتغرس مفهوم الذل في النفوس.
فالقوانين ، التي تشرع، والعادات التي تشجع، والثقافة التي تسود ، والأجهزة والقنوات الإعلامية التي ينفق عليها من كدح الأمة وعرقها ، كل ذلك يسير في اتجاه واحد هو تثبيت معاني الذل والخنوع ، وتجريد الأفراد من كل معاني عزة النفس والعفة ، وضرب وتشويه كل خلق يشير إلى تماسك الشخصية ، والبعد بها عن كل مواطن الطهارة النفسية والجسدية ، والعمل ، ليل نهار ، من أجل اقتلاع أخلاق راسخة حفظت للأمة كيانها ، وأمسكت عليها وجودها مميزاً ، وذلك بالتشكيك تارة ، وبالسخرية من هذه الأخلاق تارة أخرى ، وبالجرأة الوقحة التي يُغالي في الإنفاق عليها ، وإغداق المال والجوائز والألقاب على من يتولون كِبْرَها ، في الوقت الذي تهدر فيه الكرامات ، وتداس فيه الحريات ، وتكمُّ فيه أفواه الحق ، وتطلق فيه ألسنة الباطل ، وتنقبض فيه الأيدي عن البذل في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وإذا بقيت – بعد كل هذا – بقية لم يؤثر فيها هذا الإلحاح المتواصل على ” غسل مخها ” والتخلي عما تعتقده وتراه ، ووقفت – ما أمكنها ذلك – صابرة مرابطة محتسبة ؛ فهناك علاج من نوع آخر لمن لا تؤثر فيه هذه المؤثرات ، حيث يؤخذ بالشدة والعنف ، ويحارب في رزقه ، وحريته ، وسمعته.
فمن الأمور التي عملت على تعميق الذل و ” تسويقه ” وانتشاره على أوسع مساحة من الناس ، ما يرونه من البطش والجبروت في استخدام الأسلحة المتطورة ، إن كل من تسوِّل له نفسه أن يفكر – ولو بصمت – بطريقة تخالف منطق الاستبداد والقهر ، فضلاً عن استخدام حقه في التفكير عالياً ؛ والتعبير عما يبدو له بشكل يتعارض ونية قاهريه ، سيجد أمامه – أنّى التفت ، وحيثما توجه -لافتة مكتوباً عليها: ” انج سعد ، فقد هلك سُعيد ” .
إن ذل الأمم مقدمة لظهور الفساد بشتى صنوفه وألوانه ، وإن ما يصيبها من الظلم ، وما تُرمى به من صنوف البلاء: كالفقر ، وانعدام الأمن ، وهدر الحقوق ، وتسلط الرعاع والسِّفْلة ، و… كل ذلك ليس إلا ابتلاء من الله ، وعقوبة منه على التفريط ، وحب الدنيا ، ونسيان الآخرة ، وصدق الله العظيم إذ يقول: ((ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)) (الروم 41).
وكم بين واقع الأمة الإسلامية اليوم ، والواقع الذي أوصى فيه أبو بكر – رضي الله عنه – خالد بن الوليد ، غداة مسيره لمحاربة المرتدين: ” احرص على الموت توهب لك الحياة ” ، فكانت حياة خالد وجنده من الصحابة الكرام ترجمة عملية لهذه الوصية ، مما جعله يقول لهرقل ، قبيل معركة اليرموك: “.. لقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحب -أنت – الحياة “.
لقد مرت على المسلمين فترات مظلمة – كهذه الفترة أو أشد – مستهم فيها البأساء والضراء وزلزلوا ، فحينما اجتاح التتار العالم الإسلامي ، ضج السهل والجبل من كثرة ما أريق من دماء المسلمين ، وأشفق المؤرخون من هول ذكره ، وبلغ الذل بالناس إلى الحد الذي جعل الجندي الأعزل ، من المغول ، يأمر الرجل ، فيضع خده وعنقه على الأرض ، ثم يأمره أن يظل على هذه الحال ، بلا حراك ، ومن غير ما حارس يحرسه، حتى يذهب هذا ويحضر سلاحاً يحتز به رقبته!!.
وفي كل مرة زحف – ويزحف – فيها التتار والمغول وأشباههم ؛ يعملون على قذف الرعب ، واستلال روح المقاومة من النفوس ، ولم يوقف زحف المغول الأصفر إلا هتاف: “وا إسلاماه”، الذي تردد مرة في بطاح عين جالوت.
ولن يوقف المغول والتتار ، ومن في حكمهم ، إلا مثل هذا الهتاف: “وا إسلاماه”.
كتبه د ايمن الاصبحعوامل الذل
ما الذي يجعل شخصاً ما، أو شعباً من الشعوب، ذليلاً؛ خاضعاً، مكسور الشوكة، مهيض الجناح؟ لا شك أن وراء ذلك سبباً ، أو أسباباً أدت إليه.
أما الأسباب الذاتية: فهي قابلية وأهلية للخضوع، تكبر مع الزمن، في ظل غلبة الشهوات والانقياد إلى حب الدنيا وما بها من متاع زائل.
إن الأمة عندما تصبح الشهوات فيها هي المتحكمة ، وتجعل هدفاً رئيسياً لها: “تحقيق الرفاه المادي”، بأي شكل تحقق هذا الرفاه ؛ تكون قد دخلت طور الانهيار والاضمحلال من بابه الواسع. قد تعيش سنوات – تطول أو تقصر – في ظل هذا العبث ، وقد يزدهر اقتصادها ويتضخم إنتاجها ، ويخدعها كل ذلك عن النهاية المحتومة التي ستصير إليها يوماً ما ، ولكن ريحها ستذهب ، ودولتها ستدول لا محالة ، بل إن الأمة التي تفشو فيها مثل هذه المفاهيم تصبح ألعوبة لفئة قليلة تميل بها ذات اليمين وذات الشمال ، وقد وصف الله تعالى في كتابه العزيز هذه الحالة ، ممثلة في قوم فرعون فقال ، عز وجل: ((فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ)) [سورة الزخرف 54].
فأي طاغية لا يبسط سيطرته على الجماهير إلا بعد أن تسقط هذه الجماهير صرعى الشهوات والمطامع ، وتتمرغ في أوحال الفسق والبعد عن الحق ، وعدم الالتفات إلى هدي الله والتمسك بحبله ، وتستبدل ميزان الهوى بميزان الإيمان ، أما المؤمنون الذين يبصرون الحقائق بنور الهداية ، ويَزِنون لأمور بميزان الإيمان ، فمن الصعب -إن لم يكن من المستحيل – الاستخفاف بهم، وتوجيههم الوجهة التي تجعلهم غثاء كغثاء السيل”.
وأما الأسباب الخارجية: فلها ارتباط قوي بالأسباب الذاتية ، ارتباط النتيجة ، بالسبب.
فعندما تغفل الأمة عن مقومات وجودها ، يسطو على قيادتها نفر لا يحملون الا الأهلية التي يتمتع بها الغاصب المتغلب ، ولا يمتازون إلا بما يمتاز به قطاع الطرق ، من الجرأة على سفك الدماء ، وعند ذلك تكمل الدائرة ، وتتواصل حلقات السلسلة التي يجد الأفراد والأمة أنفسهم محاطين بها ، وبعد أن كانت حالة الذل الأولى مجرد قابلية ، يصبح الواقع الجديد للأمة مدرسة منظمة لهذا الخلق الذميم ، فكل الجهود الجماعية للأمة تصبح موجهة لتغرس مفهوم الذل في النفوس.
فالقوانين ، التي تشرع، والعادات التي تشجع، والثقافة التي تسود ، والأجهزة والقنوات الإعلامية التي ينفق عليها من كدح الأمة وعرقها ، كل ذلك يسير في اتجاه واحد هو تثبيت معاني الذل والخنوع ، وتجريد الأفراد من كل معاني عزة النفس والعفة ، وضرب وتشويه كل خلق يشير إلى تماسك الشخصية ، والبعد بها عن كل مواطن الطهارة النفسية والجسدية ، والعمل ، ليل نهار ، من أجل اقتلاع أخلاق راسخة حفظت للأمة كيانها ، وأمسكت عليها وجودها مميزاً ، وذلك بالتشكيك تارة ، وبالسخرية من هذه الأخلاق تارة أخرى ، وبالجرأة الوقحة التي يُغالي في الإنفاق عليها ، وإغداق المال والجوائز والألقاب على من يتولون كِبْرَها ، في الوقت الذي تهدر فيه الكرامات ، وتداس فيه الحريات ، وتكمُّ فيه أفواه الحق ، وتطلق فيه ألسنة الباطل ، وتنقبض فيه الأيدي عن البذل في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وإذا بقيت – بعد كل هذا – بقية لم يؤثر فيها هذا الإلحاح المتواصل على ” غسل مخها ” والتخلي عما تعتقده وتراه ، ووقفت – ما أمكنها ذلك – صابرة مرابطة محتسبة ؛ فهناك علاج من نوع آخر لمن لا تؤثر فيه هذه المؤثرات ، حيث يؤخذ بالشدة والعنف ، ويحارب في رزقه ، وحريته ، وسمعته.
فمن الأمور التي عملت على تعميق الذل و ” تسويقه ” وانتشاره على أوسع مساحة من الناس ، ما يرونه من البطش والجبروت في استخدام الأسلحة المتطورة ، إن كل من تسوِّل له نفسه أن يفكر – ولو بصمت – بطريقة تخالف منطق الاستبداد والقهر ، فضلاً عن استخدام حقه في التفكير عالياً ؛ والتعبير عما يبدو له بشكل يتعارض ونية قاهريه ، سيجد أمامه – أنّى التفت ، وحيثما توجه -لافتة مكتوباً عليها: ” انج سعد ، فقد هلك سُعيد ” .
إن ذل الأمم مقدمة لظهور الفساد بشتى صنوفه وألوانه ، وإن ما يصيبها من الظلم ، وما تُرمى به من صنوف البلاء: كالفقر ، وانعدام الأمن ، وهدر الحقوق ، وتسلط الرعاع والسِّفْلة ، و… كل ذلك ليس إلا ابتلاء من الله ، وعقوبة منه على التفريط ، وحب الدنيا ، ونسيان الآخرة ، وصدق الله العظيم إذ يقول: ((ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)) (الروم 41).
وكم بين واقع الأمة الإسلامية اليوم ، والواقع الذي أوصى فيه أبو بكر – رضي الله عنه – خالد بن الوليد ، غداة مسيره لمحاربة المرتدين: ” احرص على الموت توهب لك الحياة ” ، فكانت حياة خالد وجنده من الصحابة الكرام ترجمة عملية لهذه الوصية ، مما جعله يقول لهرقل ، قبيل معركة اليرموك: “.. لقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحب -أنت – الحياة “.
لقد مرت على المسلمين فترات مظلمة – كهذه الفترة أو أشد – مستهم فيها البأساء والضراء وزلزلوا ، فحينما اجتاح التتار العالم الإسلامي ، ضج السهل والجبل من كثرة ما أريق من دماء المسلمين ، وأشفق المؤرخون من هول ذكره ، وبلغ الذل بالناس إلى الحد الذي جعل الجندي الأعزل ، من المغول ، يأمر الرجل ، فيضع خده وعنقه على الأرض ، ثم يأمره أن يظل على هذه الحال ، بلا حراك ، ومن غير ما حارس يحرسه، حتى يذهب هذا ويحضر سلاحاً يحتز به رقبته!!.
وفي كل مرة زحف – ويزحف – فيها التتار والمغول وأشباههم ؛ يعملون على قذف الرعب ، واستلال روح المقاومة من النفوس ، ولم يوقف زحف المغول الأصفر إلا هتاف: “وا إسلاماه”، الذي تردد مرة في بطاح عين جالوت.
ولن يوقف المغول والتتار ، ومن في حكمهم ، إلا مثل هذا الهتاف: “وا إسلاماه”.
كتبه د ايمن عبد العظيم …..دكتور بجامعة الازهر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق