الأحد، 15 يوليو 2018

فصل الدين عن السياسة في ميزان الشريعة


فصل الدين عن السياسة في ميزان الشريعة
من كلام الإمام شيخ الجامع الأزهر / محمد الخضر حسين(1)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ , وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ , وَالصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى أَشْرِفِ الْمُرْسَلِينَ r .
) وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ( ( الأنعام : 19)
ولخلود شريعته جعلها أبلغ الشرائع حكمة ، وأوفاها أصولاً ، وأوسعها للمصالح رعاية .
إن الذين يدعون إلي فصل الدين عن السياسة فريقان : فريق يعترفون بأن للدين أحكاماً وأصولاً تتصل بالقضاء والسياسة ، ولكنهم ينكرون أن تكون هذه الأحكام والأصول كافلة بالمصالح ، آخذة بالسياسة إلي أحسن العواقب ، ولم يبال هؤلاء أن يجهروا بالطعن في احكام الدين وأصوله ، وقبلوا أن يسميهم المسلمون ملاحدة ؛ لأنهم مقرون بأنهم لا يؤمنون بالقرآن ولا بمن نزل عليه القرآن .
ورأي فريق أن الاعتراف بأن في الدين أصولاً قضائية وأخري سياسية ، ثم الطعن في صلاحها ، إيذان بالانفصال عن الدين ، وإذا دعا المنفصل عن الدين إلي فصل الدين عن السياسة كان قصده مفضوحاً  وسعيه خائباً ، فاخترع هؤلاء طريقاً حسبوه أقرب إلي نجاحهم وهو أن يدّعوا أن الإسلام توحيد وعبادات ، ويجحدوا أن يكون في حقائقه ما له مدخل في القضاء والسياسة ، وجمعوا علي هذا ما استطاعوا من الشبه لعلهم يجدون في الناس جهالة أو غباوة ، فيتم لهم ما بيتوا .
هذان مسلكان لمن ينادي بفصل الدين عن السياسة ، وكلاهما يبتغي من أصحاب السلطان أن يضعوا للأمة الإسلامية قوانين تناقض شريعتها ، ويسلكوا بها مذاهب لا توافق ما ارتضاه الله تعالي في إصلاحها ، وكلا المسلكين وليد الافتتان بسياسة الشهوات ، وقصور النظر عما لشريعة الإسلام من حكم بالغات .
أما أن الإسلام قد جاء بأحكام وأصول قضائية ، ووضع سياسة شرعية لا ينكرها إلا من تجاهل القرآن والسنة ، ولم يحفل بسيرة الخلفاء الراشدين إذ كانوا يَزِنون الحوادث بقسطاس الشريعة ، ويرجعون عند الاختلاف إلي كتاب الله أو سنة رسوله r .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)الإمام / محمد الخضر حسين  (1293هـ / 1876م ــ 1377هـ/ 1958م ) عالم جزائري تولي مشيخة الأزهر من 1952ــ 1954 ، حصل علي عضوية هيئة كبار العلماء ، واستقال من المشيخة في 7 يناير عام 1954 احتجاجاً علي إلغاء القضاء الشرعي ودمجه في القضاء المدني ، ومن مؤلفاته : الإسلام وأصول الحكم ، الحرية في الإسلام ، رسائل الإصلاح وهو من ثلاث رسائل وغيرها . 
في القرآن الكريم شواهد كثيرة علي أن دعوته تدخل في المعاملات المدنية ، وتتولي إرشاد السلطة السياسية ، قال تعالي : ) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( (المائدة : 50)
وكل حكم يخالف شرع الله تعالي فهو من فصيلة أحكام الجاهلية ، وفي قوله تعالي : ) لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( (المائدة : 50)  إيماء إلي غير الموقنين قد ينازعون في حسن أحكام رب البرية ، وتهوي أنفسهم تبدلها بمثل أحكام الجاهلية ؛ ذلك لأنهم في غطاء من تقليد قوم كبروا في أعينهم ، ولم يستطيعوا أن يميزوا سيئاتهم من حسناتهم ، وقال تعالي : ) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ( (المائدة : 49)
فرض في هذه الآية أن يكون فصل القضايا علي مقتضي كتاب الله ، ونبه أن من لم يدخل الإيمان في قلوبهم يبتغون من الحاكم أن يخلق أحكامه من طينة ما يوافق أهواءهم ، وأردف هذا بتحذير الحاكم من أن يفتنه أسري الشهوات عن بعض ما أنزل الله ، وفتنتهم له في أن يسمع لقولهم ، ويضع مكان حكم الله حكماً يلائم بغيتهم ، قال تعالي : ) وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (  (المائدة : 45)
في آية : ) وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ( المائدة : 47)
وفي آية ثالثة : ) وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( ( المائدة : 44)
وفي القرآن الكريم أحكام كثيرة ليست من التوحيد ولا من العبادات ، كأحكام البيع والربا والرهن والديّن والإشهاد ، وأحكام النكاح والطلاق واللعان والولاء والظهار والحجر علي الأيتام والوصايا والمواريث ، وأحكام القصاص والدية وقطع يد السارق وجلد الزاني وقاذف المحصنات ، وجزاء الساعي في الأرض فساداً ، بل في القرآن آيات حربية فيها ما يرشد إلي وسائل الانتصار كقوله تعالي مرشداً إلي القوة المادية : ) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ( ( الأنفال : 60)
وقوله تعالي مرشداً إلي القوة المعنوية  : ) وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ( ( التوبة : 123)
وقوله تعالي منبهاً علي خطة هي من أنفع الخطط الحربية : ) قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ ( ( التوبة : 123)
والكفار هنا المحاربون ، ففي الآية إرشاد إلي أن يكون ما بينهم وبين ديارهم أمناً ، ولا يدعوا من ورائهم من يخشون منه أن ينهض إلي أموالهم وأهليهم من بعدهم ، أو يجلب عليهم بخيله ورجله ليطعن في ظهورهم وقد أقبلوا علي العدو الذي تجاوزوا إليه بوجوههم ؛ وفي الآيات الحربية ما يتعلق بالصلح كقوله تعالي : )  وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ( ( الأنفال : 61) ، وقوله تعالي : )  حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ( ( التوبة : 29) وفيها ما يتعلق بالمعاهدات كقوله تعالي : ) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ (( الأنفال : 58) ، وفي السنة الصحيحة أحكام مفصلة في ابواب المعاملات والجنايات إلي نحو هذا مما يدلك علي أن من يدعو إلي فصل الدين عن السياسة إنما تصور ديناً آخر وسماه الإسلام .
وفي سيرة أصحاب رسول الله r وهم أعلم الناس بمقاصد الشريعة وهو ما يدل دلالة قاطعة علي أن للدين سلطاناً علي السياسة ، فإنهم كانوا يأخذون علي الخليفة عند مبايعته شرط العمل بكتاب الله وسنة رسول الله r ولولا علمهم بان السياسة لا تنفصل عن الدين لبايعوه علي أن يسوسهم بما يراه أو يراه مجلس شوراه مصلحة ، وفي صحيح البخاري : (( كانت الأئمة يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها ، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلي غيره اقتداء بالنبي r .
ومن شواهد هذا محاورة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب y في قتال مانعي الزكاة ، وهو ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة t قال : (( لما توفي النبي r واستخلف أبو بكر بعده ، وكفر من كفر من العرب ، قال عمر لأبي بكر ، كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله r : أمرت أن أقاتل الناس حتي يقولوا لا إله إلا الله ؛ فمن قالها عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه ، وحسابه علي الله ؟
فقال أبو بكر : والله للأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلي رسول الله r  لقاتلتهم علي منعه .
فقال عمر : فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق )) .
فأبو بكر الذي كان يحب الشوري ويعتز بها ، ويلجأ إليها في الأمور التي لم يحفظ فيها عن رسول الله r حكم ولا رأي لم يقبل ما أشار به عمر من ترك قتال من منعوا الزكاة ؛ وأصر علي رأيه وتنفيذ فكرته ؛ وكان عزماً قوياً ، وحزماً غالباً واجتهاداً موفقاً قهر به المارقين من العرب والمتمردين علي نظام الإسلام(1) .
ومن ذلك أنه t أنشأ بالاجتهاد مبدأ ولاية العهد ؛ لكنه لم يجعله عهداً إلي أحد من أولاده ، ولم يقرره نظاماً وراثياً في ذريته ، ولا في كبار السن أو الأعيان من أهله وعشيرته ؛ بل عهد بالخلافة من بعده إلي عمر بن الخطاب y .
والذي نقوله في هذا المقام  أن ربط السياسة بالدين امر عرفه خاصة الصحابة وعامتهم ، وأن السياسة لا تجد في الدين ما يقف دون مصلحة ، ولا تجد منه ما يحمل علي إتيان مفسدة ، لا تجد فيه هذا ولا ذاك متي وزنت المصالح والمفاسد بميزان العقل الراجح ، وكان القابضون علي زمامها من حصافة الرأي في منعة من ان يطيش بهم التقليد صلاحاً فيشرعوه ، أو يروا الصلاح في لون الفساد فينصرفوا عنه وليس من شأن الدين أن يراعي فيما يشرع الأهواء الجامحة وإن كانت أهواء الملأ الذين استكبروا ، أو أهواء من في الأرض جميعاً .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)تكلمت في هذه المسألة بتفصيل مختصر  في كتاب ( مفهموم السياسة الشرعية بين فهم الواقع وفقه الأحكام )
 
وأقول : أنه ليس في الإسلام سلطة دينية إلا علي معني أن الحاكم ينفذ أحكام الشريعة المفصلة في الكتاب والسنة ، أو المندرجة في الأصول المأخوذة منهما .
وقاعدة الشوري التي قررها القرآن الكريم ، وجري عليها الخلفاء الراشدون كافلة بصحة الاجتهاد في الأحكام المستنبطة من الأصول ، أما النظم التي تقوم بها الشوري علي وجهها الصحيح فموكولة إلي الآراء الراجحة وما تقتضية مصالح الأمم أو العصور ، فالإسلام لم يترك السلطة التي وضعها في أيدي الحكام مطلقة عن التقيد ، وإذا استهان بها بعض الحكام بقاعدة الشوري فإن التشريع تام ، والوزر علي من لم يأخذ نفسه بما قرره الشرع العزيز .
والإسلام دين واقعي ، أدرك حاجة الإنسان إلي الرقي المادي والروحي في وقت واحد فجمع بينهما في توافق وانسجام .
وحضارة الإسلام تنطلق في كل مجال ، وتأخذ مكانها في عالم الواقع لا في أوهام الفلاسفة وخيالات المشرعين ولذلك كانت مثلاً رائعاً للحضارات علي مدي التاريخ .
ففي مجال الحياة الفردية تحفظ علي الإنسان كرامته ، وتعطيه حقه في الحرية وحرية الإسلام بميزان لا تضيق حتي تَشِلَّ الحركة وتقتل المواهب ، ولا تتسع حتي تفرط علي الناس وتطغي .
وفي مجال الحياة الاجتماعية تكافل ومواساة ، وأداء للأمانة وحكم بين الناس بالعدل .
وفي ميدان الإنسانية عامة يعلن الإسلام أن البشر جميعاً من آدم وآدم من تراب واكرم الناس عند الله أتقاهم .
وخلاصة القول في فصل الدين عن السياسة أنه قول باطل بما قررناه سابقاً .
والحمد لله رب العالمين
 كتبه د أيمن عبد العظيم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المَلَل من كَواذب الأخلاق

جاء في "صحيح ابن حبان" عن عـائـشـة -رضي الله عنها- تصف خلقاً من أخلاق الرسول -صلى الله عليه وسلم-   قالت :"كــان عـمـلـه...