الأحد، 15 يوليو 2018

هذه هي السياسة



     هذه هي السياسة                                    




كثيراً ما يقال في عالم السياسة أن السياسة شيء والأخلاق شيء آخر ، وأنه لا اتفاق بين السياسة والأخلاق ، وأن السياسة الناجحة هي السياسة التي لا تسلك سبيل المبادئ والأخلاق وتقوم علي القول المعروف ( الغاية تبرر الوسيلة ) ولكن من يقرأ تاريخ العالم السياسي قديمه وحديثه : يتبين له أن هذه الأقوال والعبارات ليست من السياسة الرشيدة الناجحة في شيء ، وأن السياسة الحكيمة المثمرة : هي التي تقوم علي الأخلاق الإسلامية والمبادئ الإنسانية ، ويتبن له أن عباقرة السياسة ومؤسسي الدول وبناة النهضات وقادة الشعوب كانوا يتحلون بالأخلاق الكريمة (الإسلامية) والمبادئ الإنسانية ، وأن الأساس السليم الذي تبني عليه السياسة الحكيمة النافعة : هو خدمة الشعب وبناء الوطن واقامة علاقات حسنة مع الآخرين في الداخل والخارج ، ووضع المصلحة العامة فوق المصلحة الخاصة في نطاق المحافظة علي حقوق الآخرين ، لأن مصالح الناس والشعوب في كل زمان ومكان متشابكة متداخلة متصلة ببعضها البعض ، وكما أنه لا يمكن لأي فرد أن ينعزل عن الآخرين ، كذلك لا يمكن لأي شعب أن يعيش منعزلاً عن الشعوب الأخرى فمصالح الجميع لا تُصان ما لم يكن هناك احترام متبادل بين الدول والشعوب .

والسياسة الحكيمة الرشيدة الناجحة تسلُك سبيل الشوري والديمقراطية والحرية وتقوم علي رضا الشعب وارادته فكل سياسة تتبع طريق الاستبداد والانفراد بالحكم وتفرض علي الشعب بالقوة والاكراه : مصيرها الفشل والسقوط ، فالشعب هو الميزان الحقيقي الصحيح لكل سياسة .

ولن يخدم الشعب ولن يكسب ثقته وولاءه إلا السياسي الذي يتسم بالعدل والحق والشرف والأمانة ، ويتبع طريق الشوري والديمقراطية ، فقد ثبت بالتجربة والواقع أن السياسة التي تتسم بالظلم والباطل : تعود علي أصحابها بالفشل والضرر والخسارة

ومن سمات السياسة العاقلة الناجحة : الكلمة الطيبة والعمل الطيب ، والأخذ والعطاء ، واللين والشدة ، والاعتدال في الصداقة والعداوة ، ووضع الشيء محله وحينه ، ومخاطبة كل شخص باللغة التي يفهمها ، والاكثار من الأنصار المؤيدين ، والاقلال من الخصوم المعارضين ، وكسب ثقة الناس ومحبتهم ، وبمقدار ما يكسب السياسي ثقة الناس به وتأييدهم له يكون هذا دلالة علي عقله ونجاحه ، ولن يكسب سياسي ثقة الناس به وتأييدهم له : إلا بخدمة المصلحة العامة ، وبناء الوطن ، هذا ما تعلمناه من فَهمنا لكتاب ربنا سبحانه وتعالي وسنة نبينا محمد e ، ورأيناه في البلاد الواعية المتقدمة ، أما في البلاد الجاهلة المتخلفة فإن كسب ثقة الأنصار والأعوان يكون بطرق ووسائل غير سليمة .

قد يقول قائل : إن السياسة كالحرب خُدعة ، فنقول له إن السياسة اسلوب والحرب اسلوب آخر وإن كان بينهما اتصال وثيق ، والغرض منهما واحد ،  لا يتبع طريق الحرب والقتال إلا عندما تفشل الطرق السياسية والوسائل السلمية ، فالحرب نتيجة لفشل طرق السلم والسياسة وذلك يعني أنه من الصواب استعمال الخداع والتضليل مع العدو في الحرب والسياسة ، ومن الخطأ استعمال ذلك مع غير العدو . 

فالحرب والسياسة مع العدو خُدعة وتضليل ، ومع غير العدو أمانة واستقامة وصدق ، كما أنه الخير للمرء أن يلتزم جانب الحق والعدل مع الناس جميعاً ، ومن الشر أن يسلُك طريق الظلم والباطل في جميع الظروف والأحوال ، فقد علمنا الله U في كتابه ونبيه e والتجربة أن عاقبة الظلم والباطل : الخراب والدمار .

إذاً : السياسة العادلة المُنصفة سياسة حكيمة رشيدة نافعة ، والسياسة الجائرة الظالمة سياسة حمقاء خرقاء ضارة .

وخير دليل علي صواب هذا الكلام : هو الوقوف علي الحياة السياسية لرجال قدامي ومحدثين .

ولنأخذ أولاً من رجال السياسة القدماء : رسول الله e فقد كان يتصف منذ الصغر بالصفات الحميدة ويتخلق بالأخلاق الكريمة ، وعلي رأسها الصدق والأمانة ، الأمر الذي دعا أهله ومعارفه إلي تسميته بالصادق الأمين .

ومن كان مفطوراً علي الأخلاق السامية يأبي عليه طبعه الحر الكريم أن يستعمل أساليب الكذب والغش والخداع والدجل مع الناس كما نري في هذه الأيام من بعض الذين دخلوا في التيار السياسي ، وأن يكون لا أخلاقياً في أقواله وأفعاله .

وقد كان e أسلوبه في نشر الدعوة الإسلامية وفي حروبه مع أعدائه :

يقوم علي الأخلاق السامية والآداب العالية وعلي رأسها : الصدق والأمانة والوفاء بالوعد والعدل والرحمة والحلم والتسامح ، ولا أدل علي حلمه وتسامحه من موقفه من كفار قريش في فتح مكة : فقد عفا عمن آذوه وحاولوا قتله واغتياله .

وبالحلم والعفو والتسامح حبب إليهم الدين الإسلامي الذي يدعوا إليه ورغبهم في اعتناقه وجعلهم يندمون علي معاداتهم له وتأخرهم عن قبول الدعوة التي يحملها وينشرها .

أما كفار مكة : فقد كانت سياستهم تقوم علي الظلم والباطل والحقد واللؤم والاضطهاد والأذى والنهب والسلب واستبعاد الآخرين واستغلال الفقير ولذلك فشلوا وخسروا واندثروا .

وهكذا كان النجاح والغلبة عاقبة سياسة الرسول e القائمة علي الأخلاق الكريمة ، وكان الفشل والهزيمة عاقبة سياسة كفار مكة وأحزابهم .

ولا شك في أن رسول الله e وسائر الرسل والأنبياء قدوة حسنة للناس جميعاً في كل زمان ومكان .

وانتقل رسول الله e إلي الرفيق العلي سبحانه وتعالي ، وخلفه في قيادة المسلمين أبو بكر الصديق رضي الله عنه .

وقد سار علي نهج رسول الله e ، وبهذا النهج القويم والخلق الكريم والسياسة الحكيمة كسب ولاء المسلمين والتفافهم حوله ، ومن الأخلاق الكريمة التي كان يتحلى بها  الخليفة أبو بكر الصديق الشجاعة والحزم والإخلاص والصلابة في الحق وقد تجلت هذه الأخلاق السامية أكثر ما تجلت في موقفه من حركة المرتدين عن الإسلام ، وقد كان المرتدون خطراً علي الدولة الإسلامية وهي ما تزال في مهدها .

ومن أخلاقه السامية التواضع ، وكسبه رزقه من عمل يده ، وزهده في المظاهر الكاذبة الفارغة ، والبساطة في حياته  وعيشته ، وديمقراطيته الفذة ، وتمسكه بالعدل والرحمة قولاً وعملاً ، ومن أقواله التي تعبر عن ديمقراطيته وعدالته وتواضعه هذه العبارات وهي من خطبة له : أيها الناس : إني وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني ، القوي فيكم ضعيف عندي حتي آخذ الحق منه ، والضعيف فيكم قوي عندي حتي آخذ الحق له إن شاء الله تعالي ، أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم .

وبهذا القدر القليل من نماذج وصور من الحياة السياسية للخليفة أبو بكر الصديق ، فحياته السياسية ساطعة مشرقة هو وغيره من الخلفاء الراشدين وممن تولي أمر الناس وأقام فيهم الحق والعدل ، حياتهم مشرقة كالشمس لا تحتاج إلي توضيح وبيان ، وبهذه الأخلاق استطاعوا أن يكسبوا ثقة الناس بهم وانضواءه تحت لوائهم واستطاعوا أن يجعلوا المجتمع العربي الإسلامي بقيادتهم الحكيمة في ظل حكم الله كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً ، ولا أدل علي صواب ونجاح السياسة التي تقوم علي الأخلاق والمبادئ من أن الشعوب في مصر والشام والعراق وشمالي أفريقيا رحبت بالجيوش العربية والإسلامية التي دخلت بلادها فاتحة ومحررة إياها من استعمار الفرس والروم .

والحرب لم تكن بين العرب المسلمين وشعوب هذه البلاد ، إنما كانت بينهم وبين دولتي الفرس والروم ، وأهم من ذلك هو أن هذه الشعوب أغلبيتها الساحقة اعتنقت الدين الإسلامي الذي حمله المسلمون الفاتحون معهم .

وتثقفت بالثقافة العربية الإسلامية وتعلمت اللغة العربية ، ومن ثم انصهرت في بوتقة العروبة والإسلام ولا غرابة في أن ينتهج العرب المسلمون الفاتحون سياسة عادلة رحيمة في البلاد التي فتحوها فهم حملة مبدأ ودين سماوي وأصحاب رسالة انسانية وليسوا غزاة مستعمرين .

وأصحاب المبادئ والرسالات تراهم دائماً متحلين بالأخلاق والآداب وفي مقدمتها العدل والرحمة ، وأما الغزاة المستعمرون فتجدهم دائماً متجردين من الأخلاق والمبادئ والقيم الإنسانية ، ولا همَّ لهم إلا تحقيق مكاسب مادية ومنافع دنيوية بأي وسيلة وأي ثمن .

وصلاح الدين الأيوبي ليس منا ببعيد كانت الأخلاق السامية والمثل العليا تتحكم في أقواله وأفعاله وسياسته ويتجلى ذلك واضحاً في معاملته لخصومه الصليبيين ، فقد كان عادلاً رحيماً معهم ، فهو لم يبطش بهم عندما انتصر عليهم كما فتكوا بالمسلمين عندما انتصروا عليهم واحتلوا القدس فقد أحدثوا فيها مجازر دامية رهيبة وسالت دماء غزيرة ، وتتجلي أخلاقه العالية وانسانيته الفذة أكثر ما تتجلي في معاملته لأشد أعدائه من الصليبين وهو ريكاردوس قلب الأسد ملك الإنجليز آنذاك ، فقد أرسل إليه طبيباً يداويه وهو مريض مع إنه جرت العادة أن يطلب المرء لعدوه اللدود المرض والهلاك .

وبهذه السياسة الرشيدة القائمة علي الأخلاق الإسلامية الكريمة والمبادئ الإنسانية العظيمة ، استطاع أن يوحد مصر والشام في دولة واحدة ، وأن يجمع صفوف معظم المسلمين للانتصار علي الصليبيين الغزاة ، كما أنه كسب احترام القريب والبعيد والصديق والعدو قديماً وحديثاً .

ونأتي إلي العصر الحديث فنري أن الاستعمار الغربي قد أصاب العالم كله ، وسياسته كما هو معروف : طابعها استعمار الشعوب الضعيفة ونهب ثرواتها وخيراتها وشعارها ( فرق تسُد ) و ( والحق للقوة ) و ( الغاية تبرر الوسيلة ) ، ويُستعمل الاستعمار الغربي أساليب الغش والخداع والدجل ، ويسلك طرق الغدر والخيانة والظلم وسفك الدماء لبلوغ أغراضه ومآربه ، وهذه الطرق والأساليب تبرأ منها الأخلاق الإسلامية الكريمة والمبادئ الإنسانية العظيمة .

وغني عن البيان أن سياسة الاستعمار الغربي لقيت وما تزال تلقي في كل مكان حلت وتحل فيه ، مقتاً واستنكاراً ومقاومة مسلحة وغير مسلحة وآلت وتئول إلي الفشل والخسارة والاندثار .

والسياسة الرشيدة الناجحة هي التي تحظي برضا الناس وتأييدهم وتخدم مصالحهم وتُصلح أحوالهم وأوضاعهم .

فمن عواقب سياسة الاستعمار الغربي الحمقاء الظالمة : مشاكل وفتن وحروب راح وقودها عشرات الملايين من الضحايا البشرية وثروات وأموال طائلة لا تعد ولا تحصي .

وأصعب المشاكل وأخطرها التي خلقتها سياسة الاستعمار الغربي مشكلة فلسطين فهي مشكلة تُشكل خطراً حقيقياً علي السلم العالمي : فإقامة اسرائيل كدولة دخيلة علي أراضي عربية أكبر جريمة أرتكبها الاستعمار الغربي ، وأفظع خطأ اقترفته السياسة الاستعمارية الغبية الهمجية ، فطرد شعب آمن من وطنه ودياره واحلال شعب دخيل محله واقامة دولة للشعب الدخيل علي أشلاء الشعب المطرود ، هدم لقوانين الحق والعدالة واهدار للقيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية .

ومن خير الأمثلة أيضاً علي بطلان السياسة التي تبتعد عن الحق والعدل : وجود فرنسا الاستعماري السابق في الجزائر ، فقد ادعت فرنسا أن الجزائر من أرضها وعملت مدة من الزمن للقضاء علي الشخصية العربية الإسلامية للجزائر وصهرها في البوتقة الفرنسية ، وماذا كانت النتيجة يا تري ؟ كانت النتيجة تبخر التزييف والتزوير وبقاء الصدق والحق ، وهلاك الباطل والافتراء واشراق الحقيقة .

وهكذا تكون الغلبة والحياة والخلود في كل زمان ومكان للحق والصدق والحقيقة ، والاندثار والفناء للباطل والزور والبهتان

ولم لا نقول أن أجهزة الإعلام والدعاية التي تتخذ الكذب والدجل والنفاق والخداع مادة لها تبوء بالفشل والاخفاق وإذا ما نجحت فإن نجاحها يكون قصيراً مؤقتاً وعلي اعتبار أن ما تقوله وتفعله هو الصدق والحقيقة والواقع ، ولا يلبث هذا النجاح المؤقت الزائف أن يتحول إلي فشل واخفاق عندما ينكشف الغطاء وتنقشع الغيوم ويبرز الحق وتسطع الحقيقة ، والواقع يطير هباء ويذهب جفاء ، والدجل والكذب كالغشاوة علي العين وكالضباب أو السحاب علي نور الشمس ، ولكن الغشاوة لا تطول ولا تلبث أن تزول فتري الحقيقة ، وسرعان ما ينقشع الضباب والسحاب فتسطع الشمس .

وثوب الكذب والنفاق شفاف لكل ذي بصر وبصيرة ، والكذب لا يمكث علي نور الصدق والحقيقة كما أن الضباب لا يبقي طويلاً علي نور الشمس .

وخلاصة ما تقدم أن السياسة الحكيمة الناجحة هي السياسة التي تقوم علي الأخلاق الإسلامية الكريمة والمبادئ الإنسانية العظيمة ، وأن السياسة المتحللة من الأخلاق ومبادئ الحق والعدل تنم عن الحمق وقِصر النظر ، وتؤدي إلي الفشل والخسارة ، وتجر إلي مشاكل وحروب ، فلا أمن ولا سلام في أي زمان ومكان إلا بالحق والعدل والأخلاق الكريمة من قِبل الناس جميعاً .
كتبه د أيمن عبد العظيم

                                  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المَلَل من كَواذب الأخلاق

جاء في "صحيح ابن حبان" عن عـائـشـة -رضي الله عنها- تصف خلقاً من أخلاق الرسول -صلى الله عليه وسلم-   قالت :"كــان عـمـلـه...