فصل الدين عن السياسة في ميزان الشريعة
من كلام الإمام شيخ الجامع الأزهر / محمد
الخضر حسين(1)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ , وَالحَمْدُ
للهِ رَبِّ العَالَمِينَ , وَالصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى أَشْرِفِ الْمُرْسَلِينَ r .
) وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ
لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ( ( الأنعام : 19)
ولخلود شريعته جعلها
أبلغ الشرائع حكمة ، وأوفاها أصولاً ، وأوسعها للمصالح رعاية .
إن الذين يدعون إلي فصل الدين عن السياسة
فريقان : فريق يعترفون بأن للدين أحكاماً وأصولاً تتصل بالقضاء والسياسة ، ولكنهم
ينكرون أن تكون هذه الأحكام والأصول كافلة بالمصالح ، آخذة بالسياسة إلي أحسن
العواقب ، ولم يبال هؤلاء أن يجهروا بالطعن في احكام الدين وأصوله ، وقبلوا أن
يسميهم المسلمون ملاحدة ؛ لأنهم مقرون بأنهم لا يؤمنون بالقرآن ولا بمن نزل عليه
القرآن .
ورأي فريق أن الاعتراف بأن في الدين أصولاً
قضائية وأخري سياسية ، ثم الطعن في صلاحها ، إيذان بالانفصال عن الدين ، وإذا دعا
المنفصل عن الدين إلي فصل الدين عن السياسة كان قصده مفضوحاً وسعيه خائباً ، فاخترع هؤلاء طريقاً حسبوه أقرب
إلي نجاحهم وهو أن يدّعوا أن الإسلام توحيد وعبادات ، ويجحدوا أن يكون في حقائقه
ما له مدخل في القضاء والسياسة ، وجمعوا علي هذا ما استطاعوا من الشبه لعلهم يجدون
في الناس جهالة أو غباوة ، فيتم لهم ما بيتوا .
هذان مسلكان لمن ينادي بفصل الدين عن السياسة
، وكلاهما يبتغي من أصحاب السلطان أن يضعوا للأمة الإسلامية قوانين تناقض شريعتها
، ويسلكوا بها مذاهب لا توافق ما ارتضاه الله تعالي في إصلاحها ، وكلا المسلكين
وليد الافتتان بسياسة الشهوات ، وقصور النظر عما لشريعة الإسلام من حكم بالغات .
أما أن الإسلام قد جاء بأحكام وأصول قضائية ،
ووضع سياسة شرعية لا ينكرها إلا من تجاهل القرآن والسنة ، ولم يحفل بسيرة الخلفاء
الراشدين إذ كانوا يَزِنون الحوادث بقسطاس الشريعة ، ويرجعون عند الاختلاف إلي
كتاب الله أو سنة رسوله r .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)الإمام / محمد الخضر حسين (1293هـ / 1876م ــ 1377هـ/ 1958م ) عالم
جزائري تولي مشيخة الأزهر من 1952ــ 1954 ، حصل علي عضوية هيئة كبار العلماء ،
واستقال من المشيخة في 7 يناير عام 1954 احتجاجاً علي إلغاء القضاء الشرعي ودمجه
في القضاء المدني ، ومن مؤلفاته : الإسلام وأصول الحكم ، الحرية في الإسلام ،
رسائل الإصلاح وهو من ثلاث رسائل وغيرها .
في القرآن الكريم شواهد كثيرة علي أن دعوته
تدخل في المعاملات المدنية ، وتتولي إرشاد السلطة السياسية ، قال تعالي : ) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ
يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( (المائدة : 50)
وكل حكم يخالف شرع الله تعالي فهو من فصيلة
أحكام الجاهلية ، وفي قوله تعالي : ) لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( (المائدة : 50) إيماء إلي غير الموقنين قد ينازعون في حسن
أحكام رب البرية ، وتهوي أنفسهم تبدلها بمثل أحكام الجاهلية ؛ ذلك لأنهم في غطاء
من تقليد قوم كبروا في أعينهم ، ولم يستطيعوا أن يميزوا سيئاتهم من حسناتهم ، وقال
تعالي : ) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ
عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ( (المائدة : 49)
فرض في هذه الآية أن يكون فصل القضايا علي
مقتضي كتاب الله ، ونبه أن من لم يدخل الإيمان في قلوبهم يبتغون من الحاكم أن يخلق
أحكامه من طينة ما يوافق أهواءهم ، وأردف هذا بتحذير الحاكم من أن يفتنه أسري
الشهوات عن بعض ما أنزل الله ، وفتنتهم له في أن يسمع لقولهم ، ويضع مكان حكم الله
حكماً يلائم بغيتهم ، قال تعالي : ) وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( (المائدة : 45)
في آية : ) وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ( المائدة : 47)
وفي آية ثالثة : ) وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْكَافِرُونَ ( ( المائدة : 44)
وفي القرآن الكريم أحكام كثيرة ليست من
التوحيد ولا من العبادات ، كأحكام البيع والربا والرهن والديّن والإشهاد ، وأحكام
النكاح والطلاق واللعان والولاء والظهار والحجر علي الأيتام والوصايا والمواريث ،
وأحكام القصاص والدية وقطع يد السارق وجلد الزاني وقاذف المحصنات ، وجزاء الساعي
في الأرض فساداً ، بل في القرآن آيات حربية فيها ما يرشد إلي وسائل الانتصار كقوله
تعالي مرشداً إلي القوة المادية : ) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ
مِنْ قُوَّةٍ ( ( الأنفال : 60)
وقوله تعالي مرشداً إلي القوة المعنوية : ) وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ( ( التوبة : 123)
وقوله تعالي منبهاً علي خطة هي من أنفع الخطط
الحربية : ) قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ
مِنَ الْكُفَّارِ ( ( التوبة : 123)
والكفار هنا المحاربون ، ففي الآية إرشاد إلي
أن يكون ما بينهم وبين ديارهم أمناً ، ولا يدعوا من ورائهم من يخشون منه أن ينهض
إلي أموالهم وأهليهم من بعدهم ، أو يجلب عليهم بخيله ورجله ليطعن في ظهورهم وقد
أقبلوا علي العدو الذي تجاوزوا إليه بوجوههم ؛ وفي الآيات الحربية ما يتعلق بالصلح
كقوله تعالي : ) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ( ( الأنفال : 61) ، وقوله تعالي : ) حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ( ( التوبة : 29) وفيها ما يتعلق بالمعاهدات
كقوله تعالي : ) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ
خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ (( الأنفال : 58) ، وفي السنة الصحيحة أحكام مفصلة في ابواب
المعاملات والجنايات إلي نحو هذا مما يدلك علي أن من يدعو إلي فصل الدين عن
السياسة إنما تصور ديناً آخر وسماه الإسلام .
وفي سيرة أصحاب رسول الله r وهم أعلم الناس بمقاصد الشريعة وهو ما يدل
دلالة قاطعة علي أن للدين سلطاناً علي السياسة ، فإنهم كانوا يأخذون علي الخليفة
عند مبايعته شرط العمل بكتاب الله وسنة رسول الله r ولولا علمهم بان السياسة لا تنفصل عن الدين
لبايعوه علي أن يسوسهم بما يراه أو يراه مجلس شوراه مصلحة ، وفي صحيح البخاري : ((
كانت الأئمة يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها ،
فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلي غيره اقتداء بالنبي r .
ومن شواهد هذا محاورة أبي بكر الصديق وعمر بن
الخطاب y في قتال مانعي الزكاة ، وهو
ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة t قال : (( لما توفي النبي r واستخلف أبو بكر بعده ، وكفر
من كفر من العرب ، قال عمر لأبي بكر ، كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله r : أمرت أن أقاتل الناس حتي يقولوا لا إله إلا
الله ؛ فمن قالها عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه ، وحسابه علي الله ؟
فقال أبو بكر : والله للأقاتلن من فرق بين الصلاة
والزكاة فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلي رسول الله
r لقاتلتهم علي منعه .
فقال عمر : فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح
صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق )) .
فأبو بكر الذي كان يحب الشوري ويعتز بها ، ويلجأ
إليها في الأمور التي لم يحفظ فيها عن رسول الله r حكم ولا رأي لم يقبل ما أشار به عمر من ترك قتال
من منعوا الزكاة ؛ وأصر علي رأيه وتنفيذ فكرته ؛ وكان عزماً قوياً ، وحزماً غالباً
واجتهاداً موفقاً قهر به المارقين من العرب والمتمردين علي نظام الإسلام(1)
.
ومن ذلك أنه t أنشأ بالاجتهاد مبدأ ولاية العهد ؛ لكنه لم يجعله
عهداً إلي أحد من أولاده ، ولم يقرره نظاماً وراثياً في ذريته ، ولا في كبار السن أو
الأعيان من أهله وعشيرته ؛ بل عهد بالخلافة من بعده إلي عمر بن الخطاب y .
والذي نقوله في هذا المقام أن ربط السياسة بالدين امر عرفه خاصة الصحابة
وعامتهم ، وأن السياسة لا تجد في الدين ما يقف دون مصلحة ، ولا تجد منه ما يحمل
علي إتيان مفسدة ، لا تجد فيه هذا ولا ذاك متي وزنت المصالح والمفاسد بميزان العقل
الراجح ، وكان القابضون علي زمامها من حصافة الرأي في منعة من ان يطيش بهم التقليد
صلاحاً فيشرعوه ، أو يروا الصلاح في لون الفساد فينصرفوا عنه وليس من شأن الدين أن
يراعي فيما يشرع الأهواء الجامحة وإن كانت أهواء الملأ الذين استكبروا ، أو أهواء
من في الأرض جميعاً .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)تكلمت في هذه المسألة بتفصيل مختصر في كتاب ( مفهموم السياسة الشرعية بين فهم
الواقع وفقه الأحكام )
وأقول : أنه ليس في الإسلام سلطة دينية إلا
علي معني أن الحاكم ينفذ أحكام الشريعة المفصلة في الكتاب والسنة ، أو المندرجة في
الأصول المأخوذة منهما .
وقاعدة الشوري التي قررها القرآن الكريم ،
وجري عليها الخلفاء الراشدون كافلة بصحة الاجتهاد في الأحكام المستنبطة من الأصول
، أما النظم التي تقوم بها الشوري علي وجهها الصحيح فموكولة إلي الآراء الراجحة
وما تقتضية مصالح الأمم أو العصور ، فالإسلام لم يترك السلطة التي وضعها في أيدي
الحكام مطلقة عن التقيد ، وإذا استهان بها بعض الحكام بقاعدة الشوري فإن التشريع
تام ، والوزر علي من لم يأخذ نفسه بما قرره الشرع العزيز .
والإسلام دين واقعي ، أدرك حاجة الإنسان إلي الرقي
المادي والروحي في وقت واحد فجمع بينهما في توافق وانسجام .
وحضارة الإسلام تنطلق في كل مجال ، وتأخذ مكانها
في عالم الواقع لا في أوهام الفلاسفة وخيالات المشرعين ولذلك كانت مثلاً رائعاً للحضارات
علي مدي التاريخ .
ففي مجال الحياة الفردية تحفظ علي الإنسان كرامته
، وتعطيه حقه في الحرية وحرية الإسلام بميزان لا تضيق حتي تَشِلَّ الحركة وتقتل المواهب
، ولا تتسع حتي تفرط علي الناس وتطغي .
وفي مجال الحياة الاجتماعية تكافل ومواساة ، وأداء
للأمانة وحكم بين الناس بالعدل .
وفي ميدان الإنسانية عامة يعلن الإسلام أن البشر
جميعاً من آدم وآدم من تراب واكرم الناس عند الله أتقاهم .
وخلاصة القول في فصل الدين عن السياسة أنه قول
باطل بما قررناه سابقاً .
والحمد لله رب العالمين
كتبه د أيمن عبد العظيم